يقلم: مجمد منسي قنديل
في الصحيفة قرات الخبرين متجاورين، ربما تعمد المحرر وضعهما هكذا حتى تسهل المقارنة، في الخبر الأول تزود أمريكا صديقتها إسرائيل بطائرات هي الأولى من نوعها، الطائرة الشبح التي تحمل ضعف الحمولة من المواد الناسفة، ولا تظهر على شاشات الرادار ، وتستطيع الإفلات من أي صاروخ يوجه إليها، هذه الطائرة لا يملكها أي جيش في العالم سوى الجيش الأمريكي وهي واحدة من اعظم اسراره، أي أن امريكا لم تهب لإسرائيل سلاحا اعتياديا، ولكنها وهبتها القوة المطلقة، في الخبر الآخر تقوم الطائرات الامريكية نفسها بقصف كل الجسور الموجودة على نهر الفرات حتى تعزل مدينة الرقة، وما حولها عن العالم، في الوقت ذاته يتولى الدب الروسي مهمة تدمير مدينة حلب على رؤوس أهلها، كم جسر عربي دمر؟ وكم مدينة محيت؟ كل تضاريس الزمن العربي التي استلزم تشيدها عمرا وطاقة، والمدن التي بنيت على مدى آلاف السنين، بما فيها حلب التي تعد اقدم مدينة في التاريخ، كل هذا كان يتم تدميره في زمن وجيز، كأن كل القوى العاتية قد تكاتفت حتى تهب لنا الضعف المطلق وحتى تدفع بنا نهائيا خارج التاريخ، رغم أننا ذات لحظة وجيزة كنا سادة هذا التاريخ وصانعيه.
دخل العرب التاريخ ببساطة آسرة، ولكنهم يخرجون منه الآن خروجا مروعا، وما بين الدخول والخروج يبدو الزمن كلحظة سرمدية، تعيد تكرار نفسها ما بين بهجة شحيحة وهزائم لا تتوقف، دخلنا التاريخ عبر القصة التي نعرفها جميعا، عندما ورد للخليفة عمر بن الخطاب خطابا من أحد الولاة يخبره فيه أنه كتبه في شهر شعبان، ولأن المسافات كانت طويلة والرسائل نادرة الوصول فلم يعرف الخليفة أي شعبان يقصد الوالي، ذلك الذي مر منذ أيام قليلة أم ذلك الذي انتهى منذ عام ، واقترح عليه أصحابه أن يضع تاريخا للأعوام بدلا من إعطائها أسماء كما الفت العرب، واختار ابن الخطاب أن يبدأ التأريخ بالمناسبة التي غيرت وجه الإسلام، هجرة الرسول الكريم من مكة للمدينة، اليوم الذي تحرر فيه الدين الجديد من قيوده القبلية الضيقة ليصبح دينا لكل البشر، وفي تلك اللحظة كانت القوة الدافعة للإسلام كفيلة بتحقيق ذلك، فقد مر اكثر من سبعة قرون دون أن يهبط نبي أو تظهر دعوة جديدة، وكان هناك توق في النفس البشرية للتغير ولتجديد علاقتها مع السماء، كما أن القوى القديمة كالفرس والرومان قد شاخت ووهنت قواها، ورغم ان العرب لم تكن لهم خبرة بمواجهة الجيوش، فقد تعلموا الوقوف في صفوف من الصلاة، ولم يتركوا بينهم فجوة ليسكنها الشيطان او تنفذ منها الهزيمة، بهذا الصف المتراص هزموا جيوشا كانت تفوقهم عددا، وبالدهاء الصحراوي رسموا خططا حربية، بدائية وناجعة، وكونوا امبراطورية متسعة من حدود الهند حتى جبال البرانس في عدد قياسي من السنوات، كان مقدرا لها ان تكون أكبر الدول واطولها عمرا ولكن كانت تعاني من ذروة الكمال الذي يشوبه النقصان، اصابها ليس مرضا واحدا ولكن ثلاثة أمراض دفعة واحدة، أولها أن حكامها كانوا اكثر من ظل الله، لم يعرفوا فضيلة التواضع العيش في ظل الله، مرض مازال مزمنا حتى الآن، كانوا وظلوا الهة صغار، كل واحد منهم يستمد سلطته من شريعة غامضة، حكمهم مطلق ومزاجهم المتقلب هو المرجعية الوحيدة ، وساعدهم الفقهاء على ذلك عندما اجتمعوا عند احد خلفاء بني أمية وافتوه أن الله قد اعفى الحكام من الحساب، فلن يخضع أي منهم لعقاب يوم القيامة، ومباح لهم أن يفعلوا أي شيء، اطلقوا أيديهم في حكم الرعية، وفروا غطاء شرعيا لكل النزوات، واعتاد الحكام أن يقربوا الأصدقاء والوزراء والقادة ثم يغدرون بهم فجأة عند أي بادرة من شك، كان الحكام يملكون اخصب الأراضي، ويفرضون ما يشاؤون من ضرائب، واعتقد احدهم أنه يمتلك حتى السحاب العابر، تعاملوا مع خصومهم بوحشية تفوق الحد، فعندما سقطت الدولة الأموية وجاء العباسيون فتحوا القبور واخرجوا عظام الامويين الموتى واحرقوها، اما المذابح فكانت تقام بشكل دوري، يتخلص السلاطين فيها من الخلان مثلما فعل الرشيد بالبرامكة ومن المنافسين ومثلما فعل محمد علي مع المماليك، وفي النهاية لم يوجد حاكم عربي قديما ولا حديثا يعترف بوثيقة تحد من سلطته مثل الماجنا كارتا، أما ثاني الامراض فهو العداء الدائم لكل ما فيه فكر أو اجتهاد، لا يوجد مفكر عربي اتيحت له الفرصة ليقول كلمته الأخيرة، ولا يوجد عالم عربي استطاع ان يتمم اختراعه، نحن حضارة الاختراعات الناقصة، كل علم نحن من رواده، اخذنا الخطوة الأولى فيه ثم ظلت اقدامنا معلقة في الهواء، ونحن أيضا حضارة الأفكار الناقصة، الأفكار انثى لابد من وأدها، فقهاء السلطان يخافون دوما من تغليب العقل على النقل، والسلطان يخشى دائما من رغبة الرعية في التغير، لذلك اتحدا معا في محاربة التفكير الحر، الفقهاء جاهزين دائما بدعاوي التكفير، وسجون السلاطين مشرعة لإخماد أي صوت، وعندما ارتفعت أصوات اخوان الصفا وهم يدعون لإعمال العقل في كل تراث الفقه وإلغاء كل ما يتنافى مع العقل والمنطق، كانوا يمثلون ثورة حقيقية على كل ما هو تقليدي وثابت وراسخ، ولكن حركتهم لم تدم طويلا، تم مطاردة افرادها ووضعوهم في السجن، واصبح اهم الكتب هي المنسوخة عن المخطوطات واهم الأفكار هي المنقولة عن السلف. أما ثالث الأمراض فهو نمو دولة العسكر، كانت الجيوش العربية هي القوة الدافعة للإسلام هي التي وسعت رقعته ورفعت راياته، ولكن تلك القوة تراخت، اخترقتها جموع المرتزقة والمحترفين، صعد الغلمان الترك من السلاجقة وانتزعوا الدولة من ايدي العباسيين، تلاعبوا بالخليفة وسلبوه قوته، وفي النهاية سلموا الدولة كلها للمغول الذين اقتحموا بغداد عاصمة الخلافة واحرقوها، وكذا فعل المماليك في مصر، استولوا على دولة الايوبيين، واستنزفوها لدرجة المجاعة قبل أن يتركوها للعثمانيين ثم للفرنسيين من بعدهم.
بشكل أو بآخر مازالت هذه الامراض القديمة متفشية في جسد الدولة الوطنية التي نعيش في ظلها، وساء الأمر اكثر عندما اسلمنا السموات العربية للقوى الأجنبية وجعلناها مفتوحة لهم، قدمنا لهم دعوة مفتوحة للغزو، جعلناهم يتسلطون علينا من أعلى ويملئون مدننا بالحرائق، سورية تدمرت والعراق تدمر وليبيا تدمرت وصنعاء تدمرت، المدن الذين افنى اجدادنا أعمارهم في بناءها اصبحنا نشارك الآن في هدمها، نزيل تضاريس عالمنا من فوق الخريطة، نخرج من التاريخ دون ادنى اثر ونغرق كل يوم في هاوية الضعف المطلق، وهذا هو حالنا جميعا، نتجرع كأس الزوال.