بقلم: شريف رفعت
أتجنب في زياراتي لمصر ـ بقدر الإمكان ـ القيام بأية أعمال إدارية، أدرك تماما أن التعامل مع الجهات الحكومية و المؤسسات العامة عملية مؤلمة لا داعي أن أعاني منها أثناء عطلتي، لكن في زيارتي الأخيرة الشتاء الماضي فـَرَضَت علي الظروف ما أحاول تجنبه. كان أول هذه الأمور حل إشكال مع البنك الذي أتعامل معه حيث قد تم تجميد حسابي، ذهبت للبنك أسأل عن سبب التجميد، أخبرتني الموظفة المسئولة بطريقة سلطوية أني أحتاج لما يسمونه تحديث بيانات، و يتم ذلك عن طريق مقارنة بياناتي لديهم ببيانات بطاقة الرقم القومي، أعطيت الموظفة بطاقة رقمي القومي و أنا أتعشم خيرا، نظرت صاحبة السعادة في البطاقة ثم قالت لي بلهجة بوليسية:
ـ آآه هاه، هذه بطاقة منتهية صلاحيتها، أتحاول أن تخدع البنك بتقديم بطاقة منتهية الصلاحية؟
وجدت نفسي في موقف المتهم بدون ذنب جنيته، قلت لها بمنتهى الأدب:
ـ إنتهت صلاحيتها؟ لكن لا يوجد على البطاقة ما يفيد بتاريخ صلاحية مـُعـَيـَن.
ـ ألا تعيش في مصر يا سيد؟ الجميع يعرف أنه بعد سبع سنوات من تاريخ إصدار البطاقة تنتهي صلاحيتها و تحتاج لبطاقة جديدة.
ـ أنا فعلا لا أعيش في مصر.
ـ هذه ليست مشكلتي و لا مشكلة البنك. إنصرف الآن فهناك مواطنون خلفك في الصف ينتظرون دورهم.
جلست على أحد المقاعد غير بعيد عن إلهة الروتين المستبدة، قلت لنفسي “أنا إذن متهم بخرق القانون لمجرد أن رقمي القومي انتهت صلاحيته”، شعرت وقتها أني مثل الخواجة “ﭼـوزيف كيه” بطل رواية المحاكمة لكافكا، و المحاكمة هي أشهر أعمال فرانز كافكا و تحكي قصة شخص يعيش في مجتمع يحكمه قانون خفي و محكمة ذات صلاحيات غير محدودة و نظام شمولي لا يأبه بحياة أفراده و لا حقوقهم، و البطل في الرواية متهم بتهمة لا يعرف ما هي و لا كيف يتعامل مع المحكمة.
قلت لنفسي:
ـ لا يا ولد أنت لست هذا التعس، أي نعم قد تكون المصالح الحكومية و المؤسسات العامة هنا تشبه محكمة كافكا لكنك أنت مختلف عن “ﭼـوزيف كيه”، فأنت ابن بلد و عندك من الذكاء و المقدرة على التصرف ما يجنبك مصير هذا التعس. توجهت إلى الموظفة مرة أخرى، بعد وقوفي في الصف الذي أمامها حتى حان دوري، ابتسمت لها ابتسامة صداقة و حميمية و تقدير و إعجاب و خضوع و قلت لها:
ـ عندي جواز سفر صالح، هل يمكن أن يحل محل الرقم القومي؟
تململت سعادتها كأنما صعب عليها أنني وجدت حلا للمشكلة ثم قالت بلهجة متأففة متعالية:
ـ احضر جواز السفر، لكن ليس من المفروض أن يكون رقمك القومي منتهي الصلاحية، هذا ضد قوانين البلد.
عدت لمنزلي فورا، أحضرت جواز سفري و عدت لها، بعد وقوفي في الصف الذي أمامها حتى حان دوري، ابتسمت لها ابتسامة صداقة و حميمية و تقدير و إعجاب و خضوع و قلت لها:
ـ اتفضلي جواز سفري.
قامت بنقل بعض البيانات من الجواز، ثم أعطتني استمارة و طلبت مني التوقيع عليها، وقعت على الاستمارة و أنا أتعشم خيرا، نظرت اللئيمة إلى توقيعي بتمعن، قارنته بتوقيع قديم لي في ملفي، هزت رأسها بطريقة سلطوية و نظرت لي نظرة اتهام ثم قالت:
ـ لا، هذا التوقيع غير مطابقة لتوقيعك الأصلي الموجود في ملفاتنا.
شرحت لها:
ـ أنا كما ذكرت لسيادتك سابقا لا أقيم في مصر، و بالتالي فاستخدامي لتوقيعي العربي نادر جدا، هذا هو السبب في الاختلاف و الذي أنا متأكد أنه اختلاف طفيف، دعيني أوقع مرة أخرى، إن شاء الله سيكون التوقيع الجديد مطابقا.
هزت رأسها علامة النفي، قالت:
ـ لا يمكن، لا أستطيع تحديث بياناتك، إذا كنت أنت لا تستطيع أن توقع توقيعا سليما، ثم أضافت بلهجة آمرة:
ـ انصرف الآن، كي لا تعطل من في الصف خلفك.
مرة أخرى جلست على أحد المقاعد غير بعيد عن إلهة الروتين المستبدة المصابة بالسادية، و مرة أخرى انتابتني المشاعر الكافكاوية، و مرة اخرى قررت التغلب عليها،قلت لنفسي، فكر تفكيرا إيجابيا، لا تكن مثل “ﭼـوزيف كيه”، التفكير الإيجابي سيساعدني على حل المشكلة، تفكير إيجابي، تفكير إيجابي، أخذت أتمعن في عمارة مبنى البنك، المبنى عريق بناه منذ ما يقرب من مئة سنة مهندس إيطالي، قمة في الأناقة و الفخامة رغم مرور السنين و ضعف أو إنعدام الصيانة، أسقف عالية، نوافذ كبيرة، سلالم رخامية، أعلى الحائط قرب السقف زخارف جميلة تمثل نباتات متشابكة، أكيد عندما كان المبنى حديثا كان أكثر جمالا و الموظفين به أكثر آدمية من هذه المرأة الشريرة، توجهت لها و قفت في الصف، عندما وصلت لها ابتسمت نفس ابتسامة الصداقة و الحميمية و التقدير و الإعجاب و الخضوع و قلت لها:
ـ وحياتك ابحثي لي عن حل، أكيد سيادتك عندك من الحكمة و الخبرة ما يمكنك من حل المشكلة، أنا ليس لي في هذه الدنيا إلا الله سبحانه و تعالى في أعاليه و حضرتك هنا على الأرض، أنا أحتاج فعلا لإجراء بعض التعاملات البنكية.
صمتت صاحبة الجلالة برهة ثم قالت:
ـ حسنا، سأتحايل على نص القانون و إن كنت سأتماشى مع روح القانون، سأجرى لك إختبارا، سأطلب منك أن توقع ثانيا على هذا النموذج ست مرات، جميع التوقيعات يجب أن تضاهي التوقيع الأصلي، أي اختلاف سيؤدي إلى استمرار تجميد الحساب. خضت الاختبار بيد مرتعشة و قلب وجل و أنا أقرأ في سري عدية ياسين لقضاء حاجتي و تفريج كربتي. أخيرا و بكل عقد النقص التي تسيطر على شخصيتها أعلنت الموظفة المعتوهة أنني اجتزت الاختبار و أنها سترفع التجميد عن حسابي، ثم قالت بلهجة سلطوية آمرة:
ـ لكن عليك أن تجدد بطاقة رقمك القومي و أن يكون توقيعك دائما توقيعا سليما.
خرجت من البنك و أنا أكاد أطير فرحا، فقد تجنبت مصير بطل كافكا و لو مؤقتا.
*****
الواقعة الثانية كانت في نقابة المهن الهندسية و التي أنا عضو بها منذ أكثر من أربعين سنة، و التي أوقفت صرف معاشي أيضا من أجل تحديث البيانات، تحدثت مع الموظف المسئول و أنا مـُسـَلـَح ببطاقة الرقم القومي الحديثة، الموظف نظر في جهاز الحاسوب الذي أمامه ثم قال:
ـ سنحتاج لرؤية شهادة تخرجك الأصلية.
لأني ساذج، و أتعامل بالمنطق و أعتقد لسذاجتي أن الآخرين أيضا يتعاملون بالمنطق، سألته ببراءة:
ـ شهادة تخرجي؟ أنا عضو عندكم منذ عقود و أتقاضى معاشي منذ ثمانية أعوام. لماذا تحتاج الآن لشهادة تخرجي؟
نظر لي الموظف كما ينظر لمعتوه و قال:
ـ هذا ليس قراري، هذا ما يطالب به الحاسوب و علينا اتباع تعليماته.
ـ لكن أليس هناك من يبرمج هذا الحاسوب، لماذا يبرمجه بحيث يطلب مراجعة شهادة عضو قديم، ثم أني لا أعيش في مصر و بالتالي شهادة تخرجي ليست هنا، و كي أطلبها من بلد هجرتي سيأخذ الموضوع وقتا طويلا.
ـ حسنا يستحسن أن تنصرف الآن و تسرع بطلبها من مكان معيشتك حتى توفر الوقت.
خرجت من النقابة مهزوما مدحورا، لا أدري لماذا هذه التعقيدات التي يلام عليها حاسوب مفتري لا أستطيع فعل شيئ حيالها و أضطر للرضوخ لها، خطر ببالي أنه لو كان الحاسوب معروفا في زمن كافكا لأضاف بعدا جديدا لرواية المحاكمة، حيث لن يعاني بطلها من تعنت نظام هلامي سلطوي فحسب لكنه كان سيعاني أيضا من قسوة و ظلم جهاز حاسوب ضخم لا يعرف أحد من الذي يبرمجه.
يجب أن أفكر الآن تفكيرا إيجابيا حتى لا أسقط في براثن اليأس و الإحباط و حتى يمكنني التصرف حيال هذه المشكلة و حتى أتجنب مصيرا كفكاويا، آآه جو الإسكندرية في صباح منتصف يناير، شمس ساطعة تحنو على مدينتي، نسمة هواء عليلة تـُقـَبـِل محياي و درجة حرارة معتدلة تحث على التفاؤل، قارنت ذلك بجو الشتاء القاسي الذي يعاني منه أصدقائي و معارفي في مونتريال و ارتسمت على وجهي ابتسامة رضاء كبيرة أنستني معاناتي في النقابة.
أجريت اتصالات مع أسرتي في مونتريال فقاموا بارسال شهادة تخرجي مع صديق سيصل الاسكندرية خلال أيام، فعلا أخذت الشهادة و ذهبت سعيدا للموظف الذي فحصها ثم قال لي:
ـ حسنا، الخطوة الأخيرة أن تحضر لي من البنك الذي تتعامل معه ما يفيد بأن البنك لم يتلق في حسابك إيداعات معاشك من النقابة عن الفترة الماضية.
قلت له مندهشا:
ـ لماذا تحتاجون لذلك؟ مفروض أن النقابة هي من تودع المعاشات في حسابي، لذلك فالنقابة بالتأكيد تعرف أني لم أتلق معاشي عن الفترة الماضية .
نظر لي و قد نفذ صبره و قال:
ـ هل يجب أن أشرح لك مرة أخرى أن هذه طلبات الحاسوب، لماذا تكثر من الاعتراض و الجدال؟ هل تتحدى أوامر الحاسوب؟
ـ لا، لا سمح الله، الحاسوب و أوامره على عيني و رأسي.
جلست على أحد المقاعد في صالة النقابة أقَيـّـِم الموقف، شعرت بتعاطف شديد مع “ﭼـوزيف كيه” المسكين، يجب علي أن أخرج من حالة القنوت هذه التي تحتويني، هززت رأسي حيرة، هناك بنت صغيرة في الرابعة تقف بجوار مقعدي و بجوارها أم منتقبة، رأتني الصغيرة أهزز رأسي فقلدتني و حركت رأسها مثلي، ابتسمت لها فابتسمت لي، عبست و أنا أنظر لها متصنعا الغضب فقلدتني في عبوسي، الأم لاحظت التعبيرات المختلفة على وجه ابنتها فنظرت لي لتعرف السبب، رسمت تعبيرا محايدا على وجهي و تصنعت البراءة، لكزت الأم ابنتها، عاودت الصغيرة النظر لي فأخرجت لها لساني وابدورها أخرجت لي لسانها، غمزت لها فغمزت لي، الأم شاهدتني متلبسا بالغمز للصغيرة فسحبتها بشدة و انصرفت غاضبة، ذهبت للبنك ضيعت يوما من عطلتي كي أحضر للحاسوب المعتوه ما طلبه. وعدني الموظف بأن النقابة ستعاود صرف معاشي، خرجت و أنا فخور بإنجازي هذا الذي تم على حساب العقل و المنطق.
*****
الواقعة الثالثة كانت مع القوات المسلحة و مصلحة المساحة، باختصار أنا و أخواتي ورثنا قطعة أرض عن والدينا خارج الاسكندرية، الأرض تضاعف سعرها بطريقة ملحوظة لكن القوات المسلحة استولت عليها منذ خمسة عقود و أنشأت على جزء منها معسكرا، راسلنا القوات المسلحة كي تعيد لنا الأرض فطلبوا عدة مستندات منها خارطة مساحية بموقع و مساحة الأرض من مصلحة المساحة، ذهبت للمصلحة و بعد إجراءات مطولة و مستندات عديدة استغرقت عدة أسابيع أخذت من الموظف المسئول الملف الخاص بطلبي و دخلت به للمدير المسئول ليوقع على طلبي تمهيدا لاستخراج الخارطة المساحية المطلوبة، نظر المدير للملف و لم يقرأ شيئا من محتوياته لكنه سألني:
ـ ما الحكاية؟
لخصت له طلبي و كل الاجراءات التي قمت بها و ذكرت له المستندات التي بالملف و أنا أشعر بالفخر مثل التلميذ الذي قام بأداء واجبه المدرسي على خير وجه. قال لي الرجل بلهجة الخبير:
ـ المصلحة في حالة مثل هذه لا تعطي خرائط للأفراد، عليك أن تطلب من القوات المسلحة أن تطلب منا أن نرسل لها مباشرة الخريطة المطلوبة.
أخفيت صدمتي بصعوبة و قلت له شارحا بطريقة مؤدبة:
ـ لكن القوات المسلحة هي من طلبت مني أن أحصل منكم على الخريطة المساحية، معي خطاب منهم يفيد بذلك، أنا من ثلاثة أسابيع أعد مستندات و ألبي طلبات طلبها موظفوك، لماذا طلبوا مني هذه المستندات إذا لم يكن من المفروض أن أقــَدم على طلب إصدار الخريطة؟
قال لي جنابه كمن نفذ صبره:
ـ أنا أنصح بما يجب فعله و أنت حر تقبله أو ترفضه، لكن المصلحة لن تصدر لك الخريطة.
استجمعت شجاعتي و قلت له:
ـ يا أستاذ أنا مواطن مصري أطلب من مصلحة حكومية مصرية طلب أرى أنه حقي، رفضك هذا تعنت لا داعي له.
ـ اتفضل يا سيد و انصرف الآن، فوقتي ثمين و أريد أن أخدم باقي المواطنين.
*****
خرجت من مصلحة المساحة و قد تملكني اليأس و القنوط. شعرت بالشفقة الشديدة على “ﭼـوزيف كيه” بطل المحاكمة، عذرته عندما قال في نهاية الرواية “ها أنا ذا أموت مثل كلب حقير”، شعرت أني أنا أيضا أموت معنويا مثل كلب حقير.
لكن لا، لقد قررت من قبل ألا ألاقي نفس المصير، و أن أفكر تفكيرا إيجابيا و أن أحل مشاكلي و لا أستسلم للمنظومة الروتينية المستبدة، المهم كيف أفعل ذلك؟
استقليت سيارة أجرة و طلبت من السائق التوجه بي إلى نادي المهندسين الواقع على كورنيش الاسكندرية حيث يمكنني التفكير في طريقة إيجابية للمواجهة، الطريق مزدحم للغاية، السيارات تقريبا لا تتحرك، ضجيج أبواق السيارات عالٍ و غاضب، سائقو السيارات حولنا ساخطون قلقون و متوترون بسبب الزحام. السائق الذي يقود سيارة الأجرة شاب في أواسط العشرينات، نظيف الملبس، حليق، بشوش، وضع في جهازه شريط لفيروز و أخذ يدندن مع أغنيتها الجميلة و على وجهه ابتسامة حبور، يبدو رائقا للغاية، منظره و تصرفاته تتناقض تماما مع ما حوله، قلت له:
ـ واضح أنك غير متأثر بالجو العام الذي يحيط بك.
أجاب مبتسما:
ـ لماذا أتأثر؟ ما الذي يمكنني تغييره؟ أنا كل صباح قبل أن أبدأ عملي أتناول نصف قرص “ترامادول”، هذا كافي كي يعدل مزاجي باقي اليوم.
أخرج نصف قرص من جيبه و عرضه علي فأخذته بدون تردد و تناولته، بعدها بلحظات أصبحت أنا أيضا سعيدا مثل السائق، روحان منطلقتان محلقتان لا تباليان بما حولهما.
أدركت وقتها لماذا أحب هذا البلد المجنون بجنون.