بقلم: نعمة الله رياض
في الصباح الباكر من يوم عطلته , نزل راضي عبد الستار من منزله في حي عين شمس بالقاهرة ,بعد أن أخبر زوجته انه سيشتري الخبز وطلبات البيت.. راضي في الخامسة والثلاثين من عمره يعمل محاميا في إدارة الشئون القانونية لشركة بالقطاع الخاص .. متزوج منذ أربع سنوات من موظفة في ديوان إحدي الوزارات ولم يرزقا بأطفال بعد..
توجه إلي منفذ توزيع الخبز بالشارع الرئيسي بالحي, لم تكن سيارة الخبز قد وصلت بعد .. جلس علي الرصيف المواجه للمنفذ مع مجموعة من الرجال والنسوة المنتظرين وصولها ..
سرح بفكره متسائلا , كيف وصل به الحال ليجلس بلا تبرم علي رصيف الشارع منتظرا” وصول الخبز لنحو الساعة تزيد أو تنقص حسب ظروف السيارة وسائقها ؟! ..
يعلم أن الخبز المدعم ما زال يباع بخمسة قروش منذ سبعينات أو ثمانيات القرن الماضي , وكان متاحا للجميع وبأي كمية .. زاد الناس وزاد الطلب وإمتدت الطوابير فتحدد لكل فرد أرغفة خبز بجنية واحد , زاد الطلب أكثر , فتقرر البدء في تطبيق منظومة لتوزيع الخبز طبقا لبطاقة التموين بواقع خمسة أرغفة لكل فرد , ومن ليس معه بطاقة تموين لأن دخله تعدي الحد الأدني لإستحقاق بطاقة تموين كاملة للسلع الأساسية من زيت وسكر وأرز وخلافه , عليه أن يذهب لمكتب التموين لإستخراج بطاقه مؤقته لصرف الخبز فقط وبجنيه واحد علي الأكثر ..
ذهب راضي لمكتب التموين حيث أخبرته الموظفة إن من حق كل مواطن خمسة أرغفة في اليوم , وهكذا أمكنه إستخراج بطاقة تموين مؤقتة بعد تقديم المستندات المطلوبه …كان الوضع الجديد مرضيا , حيث إختفي الزحام والشجار حول منفذ التوزيع وأخذ كل مواطن حصته العادلة , وبالطبع لم يعد ممكنا لتجار المواشى والدواجن شراء الخبز المدعم بأي كمية علفا” لحيواناتهم وطيورهم .
لم يصل الخبز بعد .. وطالت جلسته علي الرصيف , وواصل التفكير في حالة ,
فبالرغم من دخله المرتفع نسبيا هو وزوجته , إلا إن موجة إرتفاع ألأسعار وزيادة دخلهما بالقروش بينما الأسعار تزيد بالجنيهات , هذا إلي جانب الاقساط الشهريه كانت تلتهم ميزانيتهما التي كانت تبدو مريحه .. وكان بند شراء الخبز أقل بند في المصروفات الشهرية , كان فعلا كالتعبير المصري الشهير ( نواه تسند الزيـر) لأن سعر الرغيف الحر في الأفران الخاصة يتراوح بين عشرة إلي خمسة عشرة ضعفا” سعر الرغيف المدعم .
ولكن كان هناك بندا” مستحدثا” يستنزف الميزانية ويجعلهما يقتران علي أنفسهما في مصروفاتهما ويستدينان أحيانا من هنا وهناك.. أما قصة هذا البند , فهو محاولتهما الدؤوبة لتحقيق حلمهما بطفل يملأ عليهما حياتهما ويجعل لها طعما ومعني .. هو يحب زوجته وهي تحبه وأكثر .. وعندما مرت السنه الأولي من الزواج ولم ينجبا ساورهما القلق وذهبا لأطباء التأمين الصحي للتشخيص والعلاج , وبعد إجراء الفحوص والتحاليل والأشعات المطلوبة لكل منهما , أجمع الأطباء علي إستحالة الحمل الطبيعي والإضطرار للجوء إلي تقنية أطفال الأنابيب , وهذه التقنية غير متاحة في التأمين الصحي ولا يغطي تكلفتها , لم يمكنهما تقبل هذا الأمر, وكثيرا ما كان يرجع للبيت ليجد زوجته تبكي بحرقة .. أخيرا” قررا بإصرار السير في طريق العلاج بالمستشفيات الخاصة حتي النهاية , صمما علي تحقيق أملهما مهما كانت التضحيات والتكلفة .. وهكذا أضيف بند مكلف نزل بهما من فئة متوسطي الدخل ,إلي فئة محدودي الدخل..!!
في إنتظار وصول الخبز , إقتربت سيدة وجلست علي الرصيف بجانب سيدة أخري يبدو أنها تعرفها كجارة أو بحكم إنتظارهما معا الخبز كل صباح …
– صباح الخير يا أم صموئيل ..
– يسعد صباحك يا أم إسماعيل , متي حضرتي ؟
– منذ أكثر من ساعة ونصف ننتظر وصول سيارة الخبز ويبدو إنها لن تحضر اليوم ..
– ومن أين نأكل اليوم وأقرب منفذ للخبز يبعد أكثر من نصف ساعة مشيا علي الأقدام , وقد نصل هناك لنجده قد أغلق …
– ربنا عالم بحالنا .. أمس الأولاد طلبوا أن أطهي لهم شيئا” آخر بدلا من حساء العدس أو الفول النابت .. قلت لنفسي أطهي لهم حساء الدجاج مع الخبز !
– الدجاج أصبح سعره مرتفع , بكم إشتريت الدجاجة ؟!!
– وهل أنا مجنونة حتي أشتري دجاجة تخرب الميزانيه ؟ لقد إشتريت كيلو ونصف من أرجل الدجاج .. نظفته من الجلد والأظافر وأعددت منه حساءا” شهيا أكل كل طفل بنهم رغيفين كاملين معه وأكلوا أصابعهم بعده .. أخبريني ماذا نفعل بدون الخبز ؟!!
– قالوا في الأخبار إن الحكومة ستلغي بطاقات التموين وتعطينا دعما نقديا
– سيكون هذا كارثة ومصيبة , سينفق زوجي هذا الدعم النقدي علي السجائر والحشيش .. تعكر وجهها وقالت بعيون دامعة :
– لأ وألف لأ.. فليبقوا لنا الخبز المدعم طعاما لإطفالنا ..
أخيرا وصلت سيارة الخبز وسط تهليل االصبية .. الخبز وصل .. الخبز وصل ..
وأسرع الجميع في الإصطفاف في طابور لأخذ حصصهم ..
صرف حصته من الخبز, فإقتربت منه طفلة بملابس رثة تعطيه ربع جنيه وتطلب بتوسل خمسة أرغفة .. أعطاها خمسة من حصته ولم يأخذ نقودها وهو يعلم جيدا” إن أمها تقف في طابور النساء لتستلم حصة عائلتها من الخبز .. وقد تكرر هذه الطفلة طلبها مع آخرين , لكنه يدرك تماما أن هذا الخبز الذي تجمعه الطفلة مع أمها هو الغذاء الأساسى , وقد يكون الوحيد لهذه الأسرة في هذا اليوم ..
وكلاب الشوارع الضاله تواظب علي التواجد في وليمة توزيع الخبز .. ترابط بصبر بالقرب من طوابير الخبز .. ينظرون بترقب للذين يستلموا حصصهم أن يجودوا عليهم بلقيمات من هذا أو من ذاك ..
في إحدي الأيام , رأي صبيا إستلم حصته وإنتحي جانبا يقضم بتلذذ واضح لقمه من رغيف ساخن وهو يحصي ما إستلمه من أرغفة وفجأه وقع رغيف علي الأرض فإنقض عليه كلب ضخم كان يتابعه بترقب , خطف الرغيف بفمه , وجري بعيدا يتبعه سباب الصبي ولعناته !!
وفي يوم آخر رأي كلبا يقترب من نافذة سيارة فاخرة بها شاب وفتاه , أعطاه الشاب قطعة من رغيف غالي الثمن ثم قاد السياره وهو يلوح من النافذة للكلب بباقي الرغيف , وجري الكلب بكل قوته لمسافة أكثر من نصف كيلومتر وراء هذا الشاب العابث, ولم يستطع الكلب اللحاق بالسيارة وسط ضحكات الشاب والفتاه المستمتعين بتعذيب حيوان جائع والذي عاد لاهثا يجر أذيال الخيبة !! ..
لكن في المقابل كانت من المناظر المؤثرة عليه , تلك المرأه العجوز التي يشاهدها في هذا الوقت كل صباح وهي تواظب علي إطعام مجموعة من قطط الشوارع فتات الخبز المذاب في الحليب..
وكلاب الشوارع ليسوا وحدهم من يحصلون علي الخبز المدعم بدون بطاقات بل بلطجية شوارع الحي أيضا” لهم حصتهم خمسة أو عشرة أرغفة , ويكفي لموظف التوزيع الحصول علي قروشهم مقابلها وإلا يصيحون ويهددون ويتوعدون وأحيانا يلوحون بعنق زجاجة مكسوره أو يهددون بحرق منفذ التوزيع ..وكان موظف التوزيع يرضخ لطلباتهم ويحتسب ذلك من نسبة الفواقد المسموح بها ..لكن إذا تعدوا حدودهم كان يلجأ احيانا للإتصال بالشرطة لتفريقهم ..
في يوم ذهب صاحبنا لمنفذ الخبز وأعطي بطاقته الممغنطة لموظف التوزيع لكنه قال : للأسف لقد ألغيت جميع البطاقات المؤقته .. !!!
عاد لمنزله بدون خبز الحكومة شبه المجاني , لكنه سيفتقد حتما الوقوف في الطابور مع هؤلاء المواطنين البسطاء الذين ينتظرون وصول سيارة الخبز بتسليم وصبر .. عليه الأن أن يخصص بندا” جديدا” في ميزانية أسرته المتهالكة أصلا, لشراء الخبز الحر, سار عائدا لمنزله مبتعدا عن منفذ توزيع الخبز المدعم وهو يتمتم لنفسه بصوت منخفض:
وداعا أيها الخبز !!!