بقلم: نعمة الله رياض
اليوم الجمعة ، أجازة من المدرسة الثانوية التي تدرس بها مريم .. الفتاة النحيفة السمراء ذات الستة عشر ربيعاً، إبنة عم عيـاد الفلاح المقيم بقرية صغيرة شمال الصعيد ، لم تكن تعتبر هذا اليوم يوماً للراحة .. لكنة يوم مختلف الأنشطة ، أنشطة تحبها وتنتطر قدوم يوم الأجازة بشغف لإنجازها .. فهي تصحو مبكراً في نفس الوقت الذي تصحو فية باقي الأيام المدرسية ، وبدلا من أمها .. تنزل إلي حظيرة الدواجن لتقدم الغذاء للطيور والعلف للجاموسة الوحيدة التي يملكونها والمربوطة في الركن البعيد من الحظيرة .. كانت تحب الجاموسة وتعتبرها صديقتها .. لم يكن في الريف من يفضل إطلاق الأسماء علي البهائم ، ولكنها كانت تسمي جاموستها .. وداد !! .. ربما لأنها تشعر بالود تجاهها عندما يلتقيا ، مريم تمسح بيديها الرقيقتين وجة الجاموسة وظهرها ..تناجيها بإسمها ، والجاموسة .. وداد .. ترد التحية بتحريك أنفها نحو مريم وإصدار خوار خافت .. ما أطيب وداد .. !! انها مسالمة للغاية وقنوعة .. حيوان أعجم لا يعرف شيئا عن خصال اليشر المتقلبة ، علمتها أمها كيف تحلبها ، وهذا ما فعلته وصعدت بإناء الحليب الدافئ إلي المطبخ في الطابق العلوي ..
لم يكن لها من أشقاء سوي أخوها الأكبر ميلاد الذي يقضي فترة التجنيد بالجيش ، ولا يحضر في أجازة إلا كل شهر كامل ، يقضي معهم بضعة أيام يسرع بعدها للعودة إلي خدمتة .. وأخوها الصغير مينا التلميذ بالمدرسة الإعدادية . أعدت مريم طعام الإفطار البسيط ونادت علي عائلتها لتناوله .. غادر ابوها المنزل مع اخيها الصغير ليعملا بالحقل .
ذهبت إلي حجرتها ، أنجزت واجبات الأسبوع المدرسية ، ثم لحقت بأمها في المطبخ لإعداد وجبة الغذاء ، أعدت أمها طعام الغذاء لأبيها وأخيها وأخذته مريم لتوصيله إليهما بالحقل .. في طريق عودتها وعندما إقتربت من القرية لاحظت دخاناَ متصاعداَ من أماكن متفرقة بالبلدة وشباب هائج يجرون هنا وهناك ..
علمت أنه بعد صلاة الجمعة في مساجد القرية ، وبتحريض من المتطرفين الذين روجوا أشاعة أن الأقباط يزمعون بناء كنيسة لهم بدون ترخيص !! ، إنتشر المخربون يحرقون منازل الأقباط وينهبون محلاتهم وهم يحملون أوعية البنزين والسولار والسكاكين والأسياخ الحديدية ويصيحون صيحات الجهاد والتكفير !! ونسوا رصيد العيش المشترك مع جيرانهم الأقباط .. جميعهم مسلمون وأقباط من الفلاحين السمر عمرهم من عمر طمي النيل .. يزرعون سويا .. لهم نفس الملامح والتقاليد .. نشأوا معا .. أكلوا معاً ثمار الوادي.. حاربوا معاً واستشهدوا معاً وإمتزجت دماؤهم معاَ .. ويأتي هؤلاء الإرهابيون ليزرعوا الغربة بين أبناء الوطن الواحد .. يزرعون فتنة ممقوتة ..
جاء الجهلاء الذين أعماهم التعصب بأوعية المحروقات .. صبوها في أنحاء حظيرة منزل عم عياد وأشعلوا النيران، فطالت كل شيئ في الحظيرة وهربت بعض الدواجن وإحترق الباقي ومعهم الجاموسة المسكينة .. وداد ، المقيدة في الركن البعيد من الحظيرة ..
أشعل المتطرفون النيران في بيوت كثيرة للأقباط وهاجموا بالأسلحة البيضاء من صادفوا منهم ، في هجوم سريع إستغرق أقل من ساعة .. إختفوا بعدها بغنائمهم التي نهبوها في حربهم المقدسة علي الأعداء !! . تأخر وصول عربات الإطفاء .. لكن مطراً غزيرا هبط من السماء ، لا يحدث عادة في شهر مايو، بدونة لكانت البيوت قد إحترقت عن آخرها ..
أقتربت مريم من منزلها وللحظة وجيزة أدركت ما حدث للحظيرة ، شاهدت جاموستها الحبيبة .. وداد جاسمة علي الأرض محترقة فاتحة فاها .. صرخت ملتاعة ودموعها تنهمر وصعدت تطوي درجات السلم تبحث عن أمها ، كانت أمها قابعة في الحجرة الداخلية تنظر إلي لاشئ في ذهول .. إحتضنتها بقوة وأجبرتها علي مغادرة المنزل ليحتميا بمنزل فاطمة زميلتها في المدرسة من هجوم الغوغاء .. فتحت لهما الحاجة أم حسين ، والدة فاطمة .. إحتضنتهما وقالت لمريم :
– متخافيش يا ضنايا .. سترك يارب .. فاطمة فوق علي السطح وراجعة حالا .. لو كان حسين وميلاد موجودين وأجازة من الجيش ، كانوا وقفوا معانا وحمونا وحموا بيوتنا ..
قالت مريم :
– هو حرام يا ناس لما يكون لنا كنيسة نصلي فيها..هو إحنا كفرة ؟ والا يعني إحنا كفرة..
ردت أم حسين :
– لأ يابنتي أنتم مؤمنين وموحدين بالله وطول عمرنا عايشين مع بعض علي الحلوة والمرة .. صاحت مريم في حرقة :
– وذنبها أيه الجاموسة ، دي كانت سترانا بخيرها .. الله يجازيهم اللي كانوا السبب ..
دخلت فاطمة إلي الشقة منزعجة مما رأته من السطح ، لم تــكد تري مريم حتي إحتضنتها في لهفة وهي تقول:
– معهلش ياختي .. منهم لله .. منهم لله ..
في تلك الجمعة الحزينة من شهر مايو .. ضمت فاطمة مريم إلي صدرها .. تلامست وجناتهما .. وإمتزجت الدموع ..