بقلم: شريف رفعت
٤ حارة الشيخ سيد هو عنواني، أو بمعنى أصح كان عنواني، حارة الشيخ سيد تغير اسمها في أواخر ستينات القرن الماضي إلى “شارع الموسيقار سيد درويش”، لكن بالنسبة لي ستبقى دائما حارة الشيخ سيد، كوم الدكة الحي الذي نشأت فيه حيث تقع حارة الشيخ سيد تتسم حواريه و بناياته و حوانيته بالفقر و الغـُلـْب و الطيبة و قلة الحيلة بالضبط مثل أهله، الغريب أنه ملاصقا ـ و كأن القدر يسخر منه ـ لشارعين من أرقى شوارع مدينتي الاسكندرية، في الغرب منه تقع نهاية شارع صفية زغلول، و في الشمال شارع فؤاد، مبانيهما كبيرة جميلة ذات طراز مميز، شارع فؤاد في هذه المنطقة به عدة مباني فخمة قديمة تحتل بعضها قنصليات بلاد أجنبية و إدارات بعض المؤسسات، به أيضا عدة مصليات تحتوي مقامات بعض التابعين من أهل البيت، أسأل نفسي ألم يكن الأجدر بأحدهم أن يكون مقامه داخل كوم الدكة حتى يسهل لأهل الحي التبرك به، أم أن كوم الدكة أتعس من أن تجذب اهتمام حتى هؤلاء الرجال المـُبـَارَكون؟
المنزل الذي كنت أقطن به مكَـوَنْ من أربعة طوابق، بـُنـِيَ في بدايات القرن الماضي، شقتنا كانت كبيرة، سبعة حجرات، جدتي كانت تقول أن هذه الشقة “يجري فيها الرهوان”، لا أعرف ما هو الرهوان، و لا لماذا يجري هذا المخبول في شقتنا، جدتي قالت لنا أيضا أن الشيخ سيد درويش كان يقطن حتى وفاته في شقة الدور الأرضي، أخبرتنا ـ و العهدة عليها كراوية ـ أنه لعدة سنوات بعد وفاته كانوا يسمعون ألحان شجية تتردد بخفوت في البناية لا يدرون مصدرها، يصحب هذه الألحان رائحة مميزة تقسم جدتي إنها رائحة حشيش.
أغيب أغيب و أعود لكوم الدكة، بالتحديد للمقهى الذي يجاور منزلنا القديم، مقهى “حـَـمو”، حمو هو صاحب المقهى و جرسونه الوحيد، أبوه الحاج مرسي أنشأ المقهى منذ أكثر من أربعين عاما، و تيَمُنا باسم الشهرة لوليده الجديد أطلق الاسم على المقهى، عندما مات الأب انتقلت ملكية و إدارة المقهى إلى حمو، شخصية غريبة حمو هذا، أنظر إليه متمعنا و أنا جالس أحتسي الشاي على أحد مقاعد المقهى المتهالكة، سماره، شاربه، صلعته الخفيفة، بنيانه المتوسط يجعلونه مثالا نمطيا للإنسان المصري، ما يميز حمو عن باقي خلق الله هو “استعباطه”، الرجل يمارس “الاستعباط” بحرفية بالغة، يمارسه باستمرار كي يداري به كسله و إهماله و تواكله، المهم أنه يمارسه بخفة دم تجعل الجميع يقبلونه.
حمو يعاملني معاملة خاصة، يؤكد لي أنه يغسل كوبي بالصابونة قبل صب الشاي به، و هذا لا يفعله لأي زبون آخر، قد يكون ذلك بسبب إعجابه لإخلاصي لمقهاه و استمراري في التردد عليه رغم انتقالي للسكن في حي راقٍ، يصر على أن يناديني بـ “كابتن”، تشرح هذا اللقب الصورة الأبيض و أسود القديمة المعلقة على الحائط المُـشَقـَقْ المتهالك، الصورة أخذت في المقهى، بها جمع من الناس، واضح أنهم من رواد المقهى، يلتفون حول كأس مصر لكرة القدم، يتوسط الصورة واقفا بجواري الحاج مرسي أبو حمو، الجميع يبتسمون ابتسامات كبيرة بريئة ساذجة، البعض ينظر لي بتقدير و إعجاب، الصورة عمرها حوالي أربعون عاما، أخذت مساء فوز نادينا السكندري ببطولة الكأس بعد أن هزم النادي القاهري العملاق الأكثر شعبية على مستوى البلد و الأغنى و الأكثر تدليلا من وسائل الإعلام، الصورة تذكرني بهذه الليلة البعيدة الجميلة، أتذكر عودة فريقنا منتصرا لمحطة مصر قرب منتصف الليل و معه الكأس، ليلة صيفية جميلة، مئات المشجعين ينتظرون في المحطة، يحملون اللاعبين و المدرب على الأعناق، في الطريق لمقر النادي صمم الحاج مرسي على أن نمر على مقهاه، قام بتوزيع الشربات على اللاعبين و المشجعين، و أخذت الصورة التذكارية الأثرية المعلقة على الحائط، تصدرت أنا الصورة بصفتي إبن الحي و الذي أحرز هدف الفوز في الدقائق القاتلة من عمر المباراة.
عندما يكون مزاج حمو رائقا و هناك زبون جديد يجلس على مقهاه يحلو له أن يحكي عن هذه الصورة، و عن فوز نادينا بالكأس، رغم أنه وقتها كان في الخامسة و لا يعي الكثير بهذا الخصوص.
أتذكر و أنا جالس على المقهى ـ كأنه حلم بعيد جميل ـ احتفالات الاسكندرية وقتها بالفوز بالكأس، أتذكر ذهاب الفريق لمبنى المحافظة حيث قابلنا المحافظ، أخذت لنا صُوَر أخرى معه و مع الكأس، ثم الحفل الكبير الذي أقيم في النادي، جو جميل من السعادة البريئة البسيطة احتوى الاسكندرية لعدة أيام، استدعيت بعدها لمكتب المحافظ حيث مُنـِحْت شقة من شقق المحافظة تقديرا لمجهودي و دوري في الحصول على الكأس، الشقة كانت حديثة نسبيا و جميلة تقع في أحد الشوارع الهادئة بحي رمل الاسكندرية، انتقلت للشقة الجديدة بعد عدة أشهر عندما تزوجت، باقي أسرتي ظلت في ٤ حارة الشيخ سيد، و ظل قلبي معلقا بحي كوم الدكة بفقره و غلبه و قلة حيلته و طيبته، في السنوات الأولى لتركي الحي كنت أحضر تقريبا يوميا لزيارة أسرتي في شقتنا القديمة و الجلوس على مقهى حمو، بمضي السنين و بسبب الانشغال و الأولاد و مطالب الحياة قل ترددي على الحي و المقهى، عندما مات من مات من الأسرة و انتقل آخرون من الشقة القديمة تركناها لمالك العقار، أصبح ترددي نادرا على كوم الدكة لكنه لم ينقطع.
المقهى لم يتغير إطلاقا، لم يحاول حمو أن يجدد الأثاث المتهالك و لا أن يطلي الحوائط القبيحة، أيضا لم يضف الجديد لقائمة المشروبات التقليدية، أجلس أحتسي المشروبات، أرنو في تمعن لمنزلنا القديم، أسرح مع ذكرياتي، أحملق في المارة من سكان الحي، أغلبهم و بالذات كبار السن منهم يعرفونني، قد يتقدم البعض للسلام و الحديث عن الذكريات، ذكريات الفوز بالكأس من أربعة عقود، ذكريات أصدقاء الحي الذي من بقى منهم يـُعَدون على أصابع اليد الواحدة، و الذين قد يحضرون أحيانا للجلوس معي و المسامرة.
كنت أعتبر حي كوم الدكة كبسولة زمنية، لسنوات طوال لم يحدث به أي تغيير ملحوظ، إلى أن جاء يوم بعد إنقطاعي عدة أشهر عن زيارة الحي بسبب مشاغلي، عندما توجهت للمقهى فوجئت بأن منزلنا القديم قد هدم و تم تشييد ناطحة سحاب مكانه، مبنى ارتفاعه ستة عشرة طابقا، شرفات المبنى ذات لون أزرق قبيح، هناك ملابس منشورة في أغلب الشرفات تعلن أن المبنى قد تم سكنه. كيف تم الهدم و البناء بهذه السرعة؟ و كيف سُمِحِ ببناء بهذا الارتفاع يطل على حواري بهذا الضيق؟
جلس حمو على طاولتي بلا إستئذان و تطوع بالرد، كانت شهيته مفتوحة للحديث عما جرى، قال لي: باني العمارة مقاول، اشتراها من الورثة، له علاقات مع مسئولين بإدارة الحي، ذلك ما سهل له الهدم و البناء السريع و الارتفاع الشاهق.
أضاف: كل شيء يا كابتن يتغير، العالم كله يتغير.
جلست على طاولتي التي اعتدت الجلوس عليها، كأني أحتمي بها من تغيرات الزمن، نظرت بأسى للبناية الشاهقة، أشعر أنها تكتم على أنفاسي، أسأل نفسي “ألا يمكننا التطور و التحديث بطريقة سليمة، لماذا يرتبط التغيير في بلدنا بالألم و المعاناة و القبح؟
بعد أقل من نصف ساعة تركت ثمن المشروب على الطاولة و انصرفت حزينا، هل يكون هدم منزلنا القديم و بناء هذه البناية العملاقة القاسية مكانه نهاية عهدي بكوم الدكة؟ لا أعتقد ذلك فالحي بالنسبة لي أكثر و أكبر من المنزل القديم، هو قطعة من تاريخي من مشاعري من حياتي.
شغلتني الحياة، إضطررت للسفر للخارج، مر ما يقرب من سنة قبل أن أعود لكوم الدكة مرة أخرى، توجهت مباشرة لمقهى حمو، لكن المقهى لم يكن هناك، مكانه كان هناك محل للهواتف المحمولة و مستلزماتها، وقفت أمام المحل مصدوما حائرا، المقهى لا يجب أن يختفي، إنه أحد ملامح الحي، أحد مقوماته، جزء مهم في حياتي أنا الشخصية، رغم قِدمه و فقره و قبحه هو ذكرياتي و ناريخي و مرفأي. دخلت حانوت البقال المجاور، سألت حبشي صاحبه عما جرى، بطريقة تقريرية، كما لو كان الموضوع قد مضى عليه سنوات طوال، أخبرني الرجل أن حمو باع المحل من حوالي سنة لأحد ابناء الحي الذي عمل بالخارج و عاد معه مبلغ يحاول استثماره، تزوج بعدها من فتاة من خارج الحي تصغره كثيرا، لم يعد يظهر في الحي بعد الزواج، قد يكون ذلك لتجنب نقد أهالي الحي له، هناك شائعات أن زوجته الجديدة تركته و تبغي الطلاق بعد أن صرف عليها أغلب المبلغ الذي حصل عليه من بيع المقهى، أضاف حبشي:
ـ هذا الرجل أدمن “الاستعباط”، و أخيرا تصرف فعلا بمنتهى “العباطة”.
أغادر الحي و الإحباط يتملكني، مرة أخرى أسأل نفسي هل هذه الزيارة هي نهاية عهدي بكوم الدكة؟ هل سأتوقف عن زيارته و أكتفي بالذكريات أختار منها العذب الجميل ، لا أعرف الرد بعد،