بقلم: محمد منسي قنديل
في هذا العام يكتمل عمر هذه الرواية مائتان عاما بالكمال والتمام، فقد نشرت طبعتها الأولى عام 1818، وبدأت ماري شيلي كتابتها وهي الثامنة عشر من عمرها، الاسم العريض للرواية «فرانكشتين»، وتحته عنوان صغير «برومثيوس المعاصر»، كانت تعاني من ولادة طفلها الأول الذي لم تسميه، ربما لم يسعفها الوقت، فقد كتبت في اليوم الحادي عشر من يوميتها: « استيقظت في الليل، وانا اشعر بانزعاج شديد لأن نومي كان مريحا لدرجة اعتقدت أنني لن استيقظ منه ابدا، وفي الصباح وجدت طفلي ميتا»، وكأن حزن الافتقاد ليس كافيا، فبدأت تعاني من احتقان ثدييها باللبن، وهاجمتها كوابيس ترى فيها أن طفلها عاد إلى الحياة، وأنه يعاني من البرد: «ظللت أدلك جسده بالقرب من النار حتى عاد إلى الحياة، وعندما استيقظت من النوم لم اجده».
وسط هذا المناخ العاطفي المتوتر بدأت في كتابة الرواية، ولم تتوقف عندما حملت في طفلها الثاني، واصابها نزيف حاد حتى اضطر زوجها الشاعر شيللي لوضعها في الثلج، أنقذ حياتها دون أن يدري، انتهت من الرواية بعد 18 شهرا، لم تضع اسمها عليها عندما طبعت في 1818، ولم تعط الوحش الذي خلقته اسما أيضا، ظل مجرد مسخ مجهول حين تم عرض الرواية كعمل مسرحي في لندن عام 1823، ويعتقد الكثير أن فرانكشتين هو اسم المسخ، ولكنه اسم العالم الذي اخترعه، الذي اكتشف قدرته على بث الحياه في الخلايا الميتة، وقام بجمع اجزاء من جثث مختلفة ليكون منها مسخا هائلا،، يتذكر فيكتور فرانكشتين هذه الليلة الحاسمة قائلا: «في ليلة كئيبة من نوفمبر، كنت على موعد مع الفخ الذي وقعت فيه، والمطر يضرب النوافذ، واضواء شحيحة تبعث من الشموع الخابية، وأنا انظر إلى هذا الشيء الذي لايوجد فيه حياة وهو يعود للحياة، رأيت وميضا من الصفرة الداكنة تنبعث من عيني المخلوق وهما تفتحان، يتنفس بصعوبة، واعضاؤه تبدأ في التحرك، لقد اكتسب الحياة»، كانت هذه البداية في المانيا ولكن الرواية تنتهي في القطب الشمالي والمسخ يصرخ :»أنا المخلوق البائس المنبوذ الذي لم يولد»، قبل أن يسير ويختفي وسط الثلوج.
إنها اربع روايات في واحدة، رواية رمزية، قوطية، وثائقية تعتمد على الرسائل، وأخيرا عن السيرة الذاتية، خلطه من الاشكال الادبية من الصعب على المؤلفة نفسها تفسيرها، كتبت في مقدمة احدى الطبعات: «يتساءلون كيف أنني ، كفتاة صغيرة، جاءت إلي تلك الفكرة البشعة، لقد جاءت كحلم، رأيته وأنا مغمضة العينين، اشبه برؤيا عقلية، رأيت ذلك العالم بعد أن قام بعمله المدنس وهو جالس على ركبتيه بجانب هذا المخلوق الذي جمع جسده، كل ما فعلته أنني كتبت مخطوط هذا الحلم».
كل رواية تولد صغيرة، ولكن فرانكشتين تبدو وقد تم تجميعها وليس كتابتها، ولادة غير طبيعية، كانت ماري تبدو كفتاة صغيرة تعيش في ظل زوجها الشاعر الشهير، وتنحدر من صلب فليسوف كبير هو وليم جولدون جودوين، اكتسبت من ابيها النزعة للتفلسف ومن زوجها السحر والهوس بكل ماهو غريب، ولكن الرواية مضت ابعد من ذلك، فقد احتوت على كل عدد من المتغيرات واختلافات الرؤى وخضعت لتفسيرات جعلتها تتجاوز عصرها، في احد الفصول يقول فيكتور فرانكشتين بعد أن بدأ المسخ يقتل كل الذين يحبهم : «الندم يطفئ أي أمل، كنت أنا خالق الشر، الرجل الذي حررته من عقاله، وجعلني هذا اعيش الخوف كل يوم، لقد اضفت شرا جديدا لهذا العام»، إنها الكلمات نفسها التي قالها روبروت اوبنهايم مخترع القنبلة الذرية معبرا عن ندمه بعد أن شاهد قوتها المدمرة بعد أن القيت على مدينة هيروشيما، كان يجب أن يعرف العلماء مسئوليتهم الاجتماعية قبل ان يطلقوا عنان الشر.
عادت الرواية للضوء مرة أخرى في السبعينات مع ثورة تحرر المرأة وارتفاع اصوات الفمينست، اعتبرتها النساء عملا بالغ الأصالة، وأن ماري شيللر هي الرائدة الأولى لأدب الخيال العلمي وسبقت بذلك كل الرجال، فكل الكاتبات التي شهدهن القرن الثامن عشر والتاسع عشر مثل الأخوات برونتي وجين اوستين أو اميلي ديكستون كن إما عذارى أو عوانس، ولكن ماري كانت استثناء.
كانت في الخامسة عشر من عمرها عندما قابلت بيرسي بيتس شيللي، كان في الثانية العشرين ومتزوج وزوجته حامل، كان مطرودا من جامعه اكسفورد بسبب الحاده، ومنبوذا من ابيه، وذهب إلى منزل الفليسوف وليم جودوين الذي كان يعتبره بطله وابوه الفكري، وكانت كتاباته تأسيسا لمذهب الرومنتيكية، وقد مارسها بالفعل مع ماري وجعلها تهرب من بيت ابيها في منتصف الليل وهي حامل بطفلها منه، وكان معها اختها غير الشقيقة كلير التي تدمرت بفعل هذا الهروب.
واذا كان هناك من استلهمت منه ماري شخصية فيكتور فرانكشتين فإن الاقرب هو الشاعر «لورد بيرون»، الرجل الذي كان يتبع رغباته ويهمل اولاده، مجنون وسيء ومن الخطر معرفته، هكذا وصفته احد العشيقات نظر لتعدد علاقاته حتى وصل إلى ممارسة الحب مع اخته غير الشقيقية اجوستا لي، وكانت زوجة بيرون قد تركته بعد عام واحد من الزواج، واقسم بيرون آلا يراها أو يرى ابنته ادا بعد ذلك، وكانت زوجته هي التي فضحت علاقته باجوستا، وبسبب هذه الفضائح اضطر للهروب من انجلترا إلى جنيف حيث التقى هنا بماري شيللي واختها كلير التي وقعت في غرام بيرون وحملت منه.
وعلى شاطئ بحيرة لوزان وفي محاولة لدفع الملل اقترح بيرون على ضيوفه مرة فكرة كتابة قصة من قصص الرعب، وظلت ماري مترددة، لا تدري ماذا تكتب حتى واتاها ذلك الحلم الغريب ، استغرقت الكتابة 18 شهرا حتى نشرت الرواية، واعتقد البعض أن زوجها هو الذي قام بكتابتها، ولكن مع كل التغيرات التي كانت تدخلها على كل طبعة أدركوا أنها الكاتبة الحقيقية.
تركيب الرواية يشبه إلى حد كبير لعبة الدمى الروسية، كل دمية كبيرة يوجد بداخلها دمية أصغر، فالدمية الأكبر في الرواية تتمثل في الرسالة التي يرسلها مستكشف انجليزي إلى شقيقته، يخبرها أنه قابل في القطب الشمالي عالم الماني يدعى فيكتور فرانكشتين الذي اقسم ان يطارد المسخ الذي خلقه حتى نهاية الارض، ثم تنكشف الدمية الأصغر قليلا من خلال الحكاية التي يقصها فرانكشتين عن كيفية خلق هذا المسخ وكيف انقلب عليه وقتل كل الذين كانوا يحبهم بما فيهم زوجته، وداخل هذه الحكاية توجد اصغر الدمى هي حكاية المسخ نفسه، ومبرر ثورته على خالقه.
إنها حكاية عن الرعب والكراهية، وهي نقيض حكاية بيجماليون الذي صنع تمثالا ثم وقع في غرامه، وبسبب قوة هذا الحب دبت الحياة في هذا التمثال، وعن الثورة الفرنسية التي التهمت كل الذين صنعوها، وعن ملوك اوروبا واقطاعيها الذي عاشوا على دم العبيد لقرون طويلة قبل أن يتمكن العبيد من الثورة عليهم.
ماتت ماري شيللي بعد أن مات كل الاشخاص الذين كانت تحبهم، معظمهم رحلوا وهي مازالت صغيرة، اختها غير الشقيقة كلير، زوجها الذي مات غرقا في اعصار بإيطاليا، لورد بيرون الذي سقط عليلا ومات وسط ثورة اليونان» آخر بقايا الجنس الذي كنت احبه انقرض وزال قبل مني»، وقد اختارت هذا الأمر ليكون موضع روايتها الأخيرة «الرجل الأخير»، وهي تدور في القرن العشرين حيث يعم وباء الطاعون ولا يبقى في العالم إلا رجل واحد، ولكنه كان اعجز من أن يدافع عن بقاء الجنس البشري.