بقلم: محمد منسي قنديل
شئنا أو ابينا، الإسلام على شفا ثورة جديدة، ثورة تبعث في داخله رياح التجديد وتجعله أكثر عصرية وتفتحا..
ليس هذا مقالا في الكفر أو التجديف، ولكنه محاولة لتلمس الظواهر الجديدة لهذا الدين العتيق الذي ورثناه عن آبائنا وأجدادنا ومازلنا متمسكين به، لا نفكر في تغيره أو التخلي عنه، أقول هذا على سبيل التذكير، تذكير النفس وتذكير من يقرأ هذه الكلمات..
فالإسلام مثل كل شيء في عالمنا المعاصر يتعرض لتحديات كثيرة وتغيرات أعمق، وخاصة بعد أن تشوهت صورته بفعل اتباعه، البعض منهم على الأقل، وعبثا نحاول الفصل بين الإسلام والمسلمين، والزعم بأن الدين جيد ولكن بعض المسلمين غير جيدين، العالم المعاصر لا يعترف بهذا الفصل، ويرى أن كل الإرهابين الذين يهددونه مسلمين، لذا يجب ان يتغير الإسلام حتى يخرج من دائرة الشبهات، نحن في حاجة لتغيرات لا تمس جوهره، ولكن تفتح الباب لتغيرات أكبر حتى تؤكد على مرونة الإسلام وقدرته على مواكبة العصر
ولكن الغريب أن هذه التغيرات تأتي من خارج مصر، رغم أنه لايوجد شعب لعب دورا مهما في نهضة الإسلام كما فعل شعبها، فقد كان دائما هو الدرع الأول الذي تصدى لكل محاولات استئصال هذا الدين، فبعد أن احرق المغول عاصمة الإسلام في بغداد تولت مصر مهمة حمايته، تصدت لجيوش الفرنجة الذين جاؤوا ليقيموا مملكة الصليب في القدس والتهموا فلسطين وبعضا من بلاد الشام، ولكن مصر ظلت تحاربهم على مدى عقود من الزمن حتى تخلصت من آخر بقاياهم، وهزمت المغول أيضا وانتقمت لما حدث في بغداد، وظلت مصر تتلقى الغزوات الاوربية المتتالية وهي تحافظ على اسلامها، ولكن بقدر جهدها في حمايته فقد ظلت غير قادرة على تجديده..
دائما ما تولد الأصوات المحافظة في مصر، وعادة ما تأتي أصوات المجددين من خارجها، ومصدر الغرابة هنا أنه لايوجد بلد في العالم انجب علماء في الإسلام مثلما انجبت مصر، ولم يتعمق أحد في جذور الشريعة ومقاصدها مثل ابناءها، ومع ذلك ظل هذا الجهد في اطاره المحافظ، فقد كانت قبضة الازهر حازمة على دارسيها، وكانت السجون أيضا مفتوحة لكل من تسول له نفسه الخروج عن الخط المرسوم، وقد تحول قانون ازدراء الأديان الذي تم وضعه في السبعينات إلى سيف مسلط فوق رقبة كل من يحاول الاجتهاد، وقد دفع المفكر اسلام البحيري ثمن ذلك من سنوات حريته داخل السجن لمجرد أنه قد جرؤ على اعمال عقله في قراءة الكتب الصفراء، وهي لم تكن أكثر من كتب غير مقدسة مر عليها قرون دون أن يتصفحها أحد أو يفكر في حل طلاسمها، ومع ذلك ذاق البحيري مرارة السجن لأنه فقط حاول ذلك.
الأفكار المختلفة حملها جمال الدين الافغاني من أفغانستان، وكان كما يقال عنه يحمل علبة السطوع في يد والثورة في اليد الأخرى، كان روحه متقدة ترفض الخضوع لاستبداد الحكام، وكان يستمد من الدين روحه الإيجابية ورفضه للحكم المطلق ويؤمن بالشورى كوسيلة للحكم، لذلك كان خلافه أساسيا مع كل حكام العالم الإسلامي الذين لم يكونوا سوى حفنة من الطغاة، وربما مازالوا كذلك، وقد اثرت تعليماته على جموع من المفكرين المصريين، وسرى جزء من روحه إلى الجيش المصري وجعل رفاق عرابي يثورون ضد الخديوي.
والأفكار المختلفة جاءت أيضا من حلب مع المفكر عبد الرحمن الكواكبي وهو يحمل كتابه «طيائع الاستبداد» ليكشف عن الطابع الاستبدادي للحكم العثماني، وكيف أن سلاطين بني عثمان يتخفون تحت عباءة الإسلام ويمارسون في الوقت ذاته أقصى درجات القمع ضد الشعوب الإسلامية الواقعة تحت أمرتهم، وكانت هذه اول درجة من الوعي للفصل بين ماهو ديني وماهو سياسي، فالدين هنا لم يكن إلا قناع للخداع يكسب هؤلاء الحكام شرعية زائفة.
على العكس من هذه اليقظة من الوعي فقد صعدت حركة الاخوان المسلمين لترتد عن كل هذه الأفكار وتعيد للدين نظرته الكهنوتية المغلقة، دون اجتهاد، ودون مجاراة لروح العصر، بل أنهم خلصوا إلى تكفير المجتمع الذي يعيشون فيه ووصفوه بالجاهلية الثانية، وكان انتشارهم في بعض جوانب المجتمع المصري هو سبب آخر لقتل روح التجديد في داخله.
ولكن الأفكار المختلفة تأتي هذه المرة من تونس، تلك الدولة الصغيرة العدد المحدودة المساحة، الرائدة في تطلعها للمستقبل وسعيها الدؤوب للتحرر من اغلال الماضي، لقد كانت اول من اعطنا الدرس الأول في الثورة، واول من اكتشف أن الطغاة العرب الذين لبثوا سنوات طويلة في الحكم ماهم إلا تماثيل من شمع، يذوبون وينتهون عندما ترتفع حرارة الغضب الشعبي، وهم يواصلون الآن ثورتهم الخاصة من اجل انصاف المرأة واعطائها حقها الطبيعي في الحياة، واهمية هذا الأمر أن المرأة العربية تعاني من وضع اجتماعي يهدر كل حقوقها، ومصر واحدة من أسوأ الدول في معاملة المرأة، ولا يتوانى رجال الدين عن اذلالها في كل مناسبة، لأنها خلقت من ضلع اعوج لذا فهي دائما إنسان ناقص، شهادتها نصف شهادة أمام المحاكم، وميراثها نصف ميراث، ولا تستطيع أن تحجب ثروة أهلها إذا لم يكن لها أخ ذكر، كل هذه المظالم الواقعة توقفت عند حدود تونس التي طالما تعاملت مع المرأة كإنسان كامل وليس نصف أنسان، فمنذ سنوات استقلالها المبكرة وهي تهتم بتعليم المرأة وتتيح لها الفرصة لتدعم شخصيتها، ثم أصدرت قانونا مهما يمنع تعدد الزوجات، لحظة مهمة في تاريخ المرأة العربية تعلن انتهاء عصر الحريم، وأضافت تونس إليها منعها للطلاق الشفوي الذي كان يضع مصير الاسرة في يد رجل غاضب، واحالت امر الزواج والطلاق إلى المحاكمة ليبني القاضي حكمه على أسباب موضوعية، وهاهي تكمل رسالتها من اجل انصاف المرأة وتصدر قانونا يساوي في الميراث بينها وبين الرجل، بل ويعطيها الحق في الزواج بمن تحب وتريده حتى ولو كان يخالف دينها، وقد تبعتها الجزائر وأصدرت قرارا باختصار آذان الصلاة ليكون اقل ازعاجا وأكثر سموا وسبقتهما ايران عندما جعلت الانثى تحجب الميراث مثلها كالذكر.
قرار جريء، وبداية حقيقية لمواكبة روح العصر، اعرف أن هناك نصا قرآنيا يحدد ميراث المرأة وكيفية زواجها، ولكنه نزل حين كانت المرأة جارية تباع وتشترى، ويأدها أهلها أحيانا في الرمال، ولكن وضعها قد تغير الآن وأصبحت إنسانا حرا، كما أن هذه التعديلات لا تمس الأسس الخمس التي بني عليها الإسلام، لم يمس القرار الجديد أي من هذه الأسس، وازعم أنه يرسخها لأنه يضيف إليها عنصر المساواة، الطريق الأمثل لتحقيق العدالة وإعطاء المرأة حقوقها التي حرمت منها طويلا.