بقلم : نعمة الله رياض
جلس أدهم في الشرفة يتأمل بحر الغردقه الممتد أمامه ،.. شرد ببصره عندما التقت عيناه بالأفق البعيد حيث تلتقي قبة السماء بالمياه الزرقاء المترامية الأطراف، وقرص الشمس الغاربة يمارس ، بدون كلل ، لعبه الاختفاء اليومي منذ ملايين السنين ، ليتصدر بعدها القمر والنجوم صفحة السماء ..
اليوم يحتفل بعيد ميلاده المائه والأربعون ..بعد قليل سيزوره وفد من الصحفيين ومراسلي القنوات الفضائية ومعهم طبيب نفسي مشهور يستعينون به أحيانا للتنويم المغناطيسي لمعرفة ماذا حدث له في ماضية البعيد.. جاءوا ليسجلوا الحدث الطبي الفريد لبلوغ أدهم هذا السن بدون أن تظهر عليه أي علامة أو مظهر للشيخوخة !! عندما وصلوا ، سألته إحدي المذيعات : – بماذا تفسر يا سيد أدهم وصولك لهذا السن وانت بهذه الحيوية والنشاط ، بشعر رأسك الأسود الفاحم ونضارة وجهك ، وجسمك الرياضي بعضلاته المفتولة ؟ بإبتسامة هادئة أجابها :
- إنها قصة طويلة ، جرت أحداثها منذ أكثر من قرن من الزمان ، وبالتحديد عام 2048 عندما أعلنت وكالة ناسا عن قبول متطوعين من الشباب للسفر في رحلات إستكشافية طويلة في الفضاء ، بدون عودة ، علي أن يوافقوا علي الخضوع لتجارب العلاج الجيني المسئول عن تنظيم الموت المبرمج لخلايا جسم الإنسان ، وذلك بهدف إطالة أعمار رواد الفضاء المحتمل ترشحهم ، وهي تجارب حرجة كانت تجري للمرة الأولي ، وقد تفشل نتيجة عدم استقرار خلايا الجسم واتزانها بعد تعديل صفاتها الوراثية ، فتنهار فى وقت قياسي وتؤدي إلي الموت المفاجئ ..
سأله صحفي آخر : - إشرح لنا من فضلك فكرة هذه التجارب.
- المعروف أن الخلايا البشرية يمكنها أن تجدد نفسها لعدد محدود من المرات ، حوالي خمسون مرة ، قبل أن تموت . فالخلايا تحتوى على آليه للتدمير الذاتى وهو ما يسمى بالموت المبرمج للخلية ويتحكم فى ذلك مجموعه من الجينات ، المجموعه الاولى محفزه لانتحار الخلية والمجموعة الأخرى مضادة لانتحارها . ويعتمد بقاء أى كائن حى متعدد الخلايا على نوع من التوازن الدقيق بين إنتاج خلايا جديده وموت الخلايا القديمه ، وما أنجزه العلماء في ذلك الوقت ، هو التعرف على الجينات المسئولة عن تنظيم الموت المبرمج للخلايا والتي تعمل على إحلالها بأخرى جديده ، ثم تعديل هذه الجينات لتعمل بكفاءة كاملة .. وهذا يؤدى إلى أن الخلايا تجدد نفسها لعدد يصل إلى حوالي خمسة أضعاف الخمسين مره العادية ، وهذا يعني عدم إنهيار الجسم واستمرار جهاز المناعه قويا عنده لأكثر من سبع مرات العمر المتوسط للإنسان . وقد خضعت ومعي باقي أفراد طاقم رواد الفضاء الذين تم إختيارهم لعملية التعديل الجيني ، كما تم تطعيمنا بلقاح مطور له قدرة فائقة على استثاره الجهاز المناعي ولفترات غير محدودة من الزمن وهو فعال ضد عدد كبير من الأمراض الخطيرة المعروفة.
سأله مذيع آخر: - هل تتصور يا سيدي كيف تكون حال البشرية إذا عاش كل فرد منها مئات الأعوام ؟ .. ستكتظ الأرض بالبشر حتى ينفجر الخلق ويتطاحنوا على
الغذاء والماء ، وتشتعل الحروب فى كل مكان . - هذا صحيح .. ولهذا فإن هذه الأبحاث عندما نجحت ، طبقت على عدد قليل جداً من البشر ، منهم رواد الفضاء الذين يقضون مئات الأعوام لاستكشاف كواكب لا يستطيع الإنسان بعمره العادي أن يصل إليها ، وهؤلاء الرواد أبطال بمعنى الكلمة ، لأنهم كانوا يعلمون انه مهما طال عمرهم فلن يرجعوا إلى الأرض مرة ثانية ، ولكنهم يفعلوا ذلك عن طيب خاطر من أجل فائدة البشرية ..
- ولكنك يا سيدي لم تسافر مع بعثة الفضاء هذه ، أليس كذلك ؟
- هذا صحيح .. فقد إستبعدوني في آخر لحظة مع فرد آخر من الطاقم لإسباب فنيه ، وكان القدر رحيم بنا ، فللأسف فقد الإتصال بسفينة الفضاء بعد 47 يوما” فقط من إقلاعها نتيجة إرتطامها بمذنب.. وهكذا إنتهي عملي مع وكالة الفضاء ناسا وسمح لي بالعودة لمصر..
- وماذا حدث لإبحاث إطالة العمر بعد هذه الكارثه ؟
- انعقدت جلسات ساخنة في مجلسي النواب والشيوخ بالولايات المتحدة ، هاجم فيها أغلب الأعضاء هذه التجارب لخطورتها على مستقبل البشرية .. ونتيجه لهذا توقفت هذه الأبحاث وتوقف تمويلها حتي الوقت الحالي ..
إكتسي وجه أدهم الإرهاق والتعب وهو يحاول جاهدا” تذكر ما حدث له في الماضي .. وهنا إقترب منه الطبيب النفسي الذي حضر معهم ، ليساعده لسبر عقله الباطن ومعرفة ماذا حدث له في الماضي بتفاصيله الدقيقة..
قال له الطبيب : - سأعطيك كبسولة وتغمض عينيك ، وتستمر في إرسال إيحاءات موجهة للعقل الباطن مباشرة ، فتبتعد تدريجيا عن الواقع الواعي .. وهذه الكبسولة تعمل علي زيادة إفراز هرمون الأندورفين الموجود طبيعيا في مخ الإنسان وغدته النخامية ، وهذا الهرمون يعمل علي الشعور بالإسترخاء والراحة والإنتقال بسهولة للعقل اللاواعي الذي يحتوي علي ذاكرة أكبر بكثير من العقل الواعي . وستبحر في عقلك الباطن وتري فيه بالتفاصيل الدقيقة ما حدث في الماضي مهما إبتعد عنا .. تواصلت الجلسة وسألته صحفية شابة :
- وماذا فعلت بعد عودتك لمصر ؟
- منذ عودتي للوطن ، بل منذ أن كنت طفلا” ، تعرضت لسلسلة متتابعة من المواقف ، نتج عن كل منها عدة إختيارات ، وكان يستلزم علي إتخاذ قرار ما للمضي في أي إختيار ، وكنت أحيانا” أختار مسارا” متفرعا” من نقطة تلاقي الإختيارات عن دراسة وفحص، وفي أحيان أخري أتخذ قرارا” عشوائيا” يشبه إلقاء العملة النقدية في الهواء ومعرفة علي أي وجه تسقط ..!!
نظر أدهم بوجه شاخص إلي الفضاء ، وإسترسل قائلا: - لكن يجب أن تعلموا أن كل إختيار مهما كان صغيرا” يؤدي إلي نتائج مختلفة في نهاية المسار الذى إخترته ، وعندما تكون كل الخيارات متاحة ، ويتم إختيار واحد منها ، يصبح محتما السير في هذا الإختيار حتي النهاية ، فمثلا” عندما أنهيت دراستي الثانوية ، كان علي أن أختار إما كلية التجارة التي أهلها إليها مجموع درجاتي أو أعيد السنة لتحسين مجموعي ، وبعد تفكير فضلت الإختيار الثاني ، وبذلك تحققت أمنيتي وسجلت نفسي في كلية العلوم ، ولولا ذلك لما تم ترشحي فيما بعد كرائد فضاء ولا كنت قد خضعت لعملية إطالة العمر .. هذا يشبه تأثير الفراشة !! سأله صحفي :
- تأثير الفراشة ؟!! كيف ذلك ؟ !!
- هو ذلك التأثير الذي تحدثه أجنحة الفراشة عند رفرفتها في الهواء المحيط بها ، ورغم كونه ضئيلا” للغاية ، فإن النظرية تقول أن هذا يمكن أن يساهم في عاصفة هوائية تتكون في مكان بعيد عن الفراشة !!.. وهكذا فإن كل قرار نتخذه في حياتتنا مهما كان صغيرا” ، قد يكون له تأثير كبير في مستقبل حياتنا ..
سألته الصحفية الشابة : - إحكي لنا عن عملك بعد عودتك من الولايات المتحدة ..
- كنت أستاذا” بكلية العلوم قبل ترشحي لريادة الفضاء، وعندما رجعت إلي مصر ، عدت أستاذا” للجامعة في مصر وبعض دول العالم ، وأنا مستمر في عملي حتي الآن..
- وهل تزوجت ؟
- مرتان تزوجتهم ، وكل زيجة لها قصة خضعت لإختيارات متعددة ، وبالتالي لنتائج ونهايات مختلفة .. في بعض الأحيان أتمني أن يقف الزمن ثم يعود إلي الوراء ، لإصلاح ما يمكن إصلاحه..
- هذا غير ممكن ، فالزمن يتحرك فى إتجاه واحد إلي الأمام ..
- هذا صحيح علميا” في العصر الحالي لأن الكون في حالة تمدد طبقا” لنظرية الإنفجار العظيم ، لكن عندما يقف تمدد الكون في المستقبل البعيد جدا”، بسبب طاقة الجاذبية المركزية ، يتوقف الزمن ثم ينعكس ويعود إلي الوراء وينكمش الكون حتي يصبح مرة أخري كما بدأ كتلة واحدة متناهية في الصغر شديدة الكثافة ، حسب نظرية الإنسحاق العظيم ، وهذا التمدد والإنكماش للكون يستغرق بضعة مليارات من السنين ..لهذا يمكن للزمن نظريا” أن يعكس إتجاهه بعد أن يمر بحالة السكون !! ونحن كمخلوقات أبناء هذا الكون يمكننا أن نتمني أن يحدث لنا ذلك بمقياس عمرنا القصير، أي نتمني أن ينعكس الزمن ونعود إلي مرحلة الطفولة والشباب.. لنعد إلي سؤالك أيتها الشابة ..
- بعد عودتي من الولايات المتحدة إلي مصر ، كان عمري يناهز الخامسة والثلاثين عاما” ، لم أفكر حينها في الزواج ، وبقيت أعزبا” حتي إلتقيت بنهاد ، وهي خريجة نفس الكلية التي أدرس بها ، وكانت تحضر رسالة الماجستير تحت إشرافي ، وتداوم الحضور إلي مكتبي بعد إنتهاء المحاضرات لنتابع معا” مدي التقدم في البحث .. كنت أشعر بنظرات الإعجاب في عينيها ، إعجاب صامت وخجول ، ولم يكن حديثنا يتعدي مجال البحث .. لكني كنت أتعمد فتح موضوعات إجتماعية عامة للمناقشة ، للتعرف علي شخصيتها بغرض إمكانية زواجي منها ..
ذات يوم ، تعطل بي مصعد مبني الوزارة الذي كنت أستقله وكانت معي فقط فتاة لفت نظري جمالها وأناقتها ، وأثناء فترة إصلاح العطل ، كنت قد تعرفت عليها ودعوتها للغذاء في مطعم مشهور في الجوار .. كان إسمها نهال تعمل في تسويق العقارات وعمرها أربعة وعشرون عاما، وغير متزوجه ..
سارت الأحداث بسرعة وتزوجتها ، لكن القدر أراد نهاية مأساوية لهذه الزيجة بعد عامين فقط ، فقد فارقت الحياة إثر مرض خطير ألم بها ..حزنت جدا” لوفاة زوجتي ولم أفكر في الزواج مرة أخري ، إلي أن حدث ذات يوم أن قابلت بالصدفة تلميذتي السابقه نهاد في محطة القطارات ، كانت مسافرة مثلي للأسكندرية ، فحجزت لها مقعدا” بجواري ، كانت تحمل طفلا” عمره بضعة أشهر .. قالت لي :- بعد حصولي علي الماجستير تزوجت من محامي معروف ، لكني إكتشفت أنه علي علاقات متعددة بالنساء ، فطلبت منه الطلاق فوافق وترك لي الطفل بلا أدني إكتراث أو مسئولية..
أطلت النظر إليها وأدركت إنني كنت مخطئا” عندما لم أستجب لمشاعرها الصادقة والدافئة تجاهي ..تيقنت إنها قدري ولنا مصير واحد مشترك.. تزوجتها وكان عمري 38عاما” وعمرها 31 عاماً ، وفارقت نهاد الحياة وعمرها 78 عاما” وعمري 85 عاما” ، ثم عشت 55 عاما”، حتي الآن بدون زواج، وصحتي والحمد لله ممتازة وكأني شاب في العقد الثالث من عمره ..!! لقد إخترت نهال بدلا من نهاد، لكن القدر كان له ترتيب آخر، فتزوجت نهاد وعشت معها في سعادة أكثر من 47عاما” …
تأهب وفد الصحفيين والمراسلين للإنصراف ، لكن أدهم طلب من الصحفية الشابة الإنتظار قليلا” وسألها: - هل لي أن أعرف إسمك ؟ – ندي ، لماذا تسأل ؟
- أريد أن أعرف هل أنت مرتبطة بأحد ؟ – حتي الآن لا ..!!
- هذا غريب لإنك فتاة جميلة ومثقفة وسريعة البديهه.. هل تقبلين الزواج من عجوز مثلي ؟
- أنت لست عجوزا” ، أنت رجل معمر وبصحة ممتازة وتشغل وظيفة محترمة .. فلماذا لا أوافق ؟!.. وبالمناسبة ، قد ننجب أولادا” يرثوا منك دوام الصحة وطول العمر!!
- عزيزتي ، لقد إتخذتي القرار الصحيح، ولن تندمي أبدا” علي هذا الإختيار !