بقلم / مسعود معلوف
يعتقد عدد غير قليل من الخبراء ان الصين، في خلال سنوات معدودة، ستسبق الولايات المتحدة اقتصاديا وتحل محلها لتصبح الإقتصاد الأقوى والأول في العالم، وأن جائحة كورونا التي أضرت كثيرا بالإقتصاد الصيني، لن يكون من نتائجها إلا تأخير حصول ذلك بعض الوقت.
منذ بضعة عقود من الزمن، كانت الصين دولة متخلفة وتعد من دول العالم الثالث، ولكن انفتاحها على العالم بعد غياب رئيسها الأسطوري ماو، وتركيزها على النمو الإقتصادي والتقدم التكنولوجي بعيدا عن الإستثمارات الضخمة في التسلح، جعلها في مصاف الدول المتقدمة. وفي مجال توسعها في الخارج وكسب علاقات اقتصادية مع العديد من دول أفريقيا ودول العالم الثالث، ابتعدت كل البعد عن التدخل في شؤون الدول الأخرى ولم تحاول إطلاقا فرض نظام سياسي أو اقتصادي معين على الدول التي كانت تمدها بالقروض وتستثمر فيها في مجالات البنى التحتية، وهذا ما أعطى الصين مصداقية عالية في كثير من الدول النامية.
من خلال هذه السياسة الحكيمة، تمكنت الصين من إحراز تقدم هائل في مستوى المعيشة عبر تحقيق معدل نمو بلغ في بعض الاحيان 11%، كما سجلت تقدما تكنولوجيا ضخما مكنها من دخول السباق الى الفضاء، ومنافسة الولايات المتحدة وأوروبا في مجال الإتصالات وإنتاج الهواتف النقالة وكل المنتجات ذات التكنولوجيا المتطورة.
إن ابتعاد الصين عن تخصيص نسبة عالية من ميزانيتها للشؤون العسكرية ساعد في إسراع تطورها الإقتصادي وانتشارها السلمي في مناطق كثيرة من العالم، خاصة بعد الإعلان، في عام 2013، عن مشروعها الضخم المسمى “مبادرة الطريق والحزام” حيث تسعى من خلال هذه المبادرة الى ربط الصين بأوروبا برا مرورا بدول آسيا الوسطى، وكذلك ربط الصين بأميركا اللاتينية عبر البحار.
ومع أن الصين تعلن باستمرار أن انفتاحها على العالم هو لمجرد تعزيز التبادل التجاري والإقتصادي والثقافي، إلا أن سلوكها يشي بخلاف ذلك. فمنذ سنوات، بدأت تعير مسألة التسلح أهمية متزايدة عبر بناء اسطول بحري ضخم للدفاع عما تعتبره مياهها الإقليمية الخاصة في بحر الصين الجنوبي بينما هذه منطقة دولية تخص عددا من الدول والجزر المتواجدة في هذه المنطقة التي يعبرها سنويا عدد هائل من البواخر المحملة بالمواد التجارية والبالغة قيمتها حوالى 3 تريليون دولار أميركي.
وبعد أن أنشأت الصين علاقات قوية مع عدد من الدول الأفريقة، بدأت توجه اهتمامها نحو الشرق الأوسط حيث زار الرئيس شي جينبينغ المملكة العربية السعودية منذ أشهر قليلة، كما أن ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان كان زار الصين في أوائل عام 2019 حيث تم الإتفاق على التعاون الثنائي في مجالات اقتصادية وتنموية متعددة من ضمنها مبادرة الطريق والحزام الصينية ومشروع رؤيا 2030 السعودي. كذلك زار الصين منذ أسابيع قليلة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي وقد أعلن في حينه أن سبب الزيارة هو تفعيل إتفاقية التعاون الإيرانية-الصينية الموقعة منذ عامين.
ولكن التطور الهام الذي أعطى الصين زخما كبيرا في نفوذها في منطقة الشرق الأوسط كان بدون شك رعايتها لاتفاق إعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة منذ سبع سنوات بين السعودية وإيران. صحيح أن مفاوضات أيرانية-سعودية كانت حصلت قبل ذلك في بغداد، ولكنها لم تصل الى النتيجة المرجوة بينما الإتفاق الذي رعته الصين تم التوصل اليه بسرعة بفضل ثقة الفريقين بالصين وقناعتهما أنها تستطيع مراقبة تنفيذه والتدخل في حال حصول أية عراقيل أثناء التنفيذ.
إن مجرد الإعلان عن هذا الإتفاق في العاصمة الصينية بيجينغ أدخل الصين بقوة في المجال السياسي الشرق أوسطي، كما أنه سيكون له نتائج هامة نعرضها باختصار فيما يلي:
- أولا بالنسبة الى الولايات المتحدة: إن العلاقات غير الودية القائمة بين الرئيس بايدن وولي العهد بن سلمان منذ حملة بايدن الإنتخابية وحتى بعد تسلمه الرئاسة شجعت المملكة على عدم البقاء تحت المظلة الأميركية دون سواها وعلى تنويع علاقاتها الخارجية، ومن هنا جاء التقارب السعودي مع روسيا ومن ثم مع الصين. كذلك يبدو ان كلا من السعودية وإيران عندها رغبة بتجاهل الولايات المتحدة وإعطاء الصين دورا أكبر في المنطقة.
يرى العديد من المراقبين أن هذا الإتفاق يدل بوضوح على انخفاض في مصداقية الولايات المتحدة في المنطقة وعدم قدرتها على القيام بمبادرات عملية لحل أي من المشاكل إذ أنها تتحدث مثلا عن حل الدولتين بالنسبة الى القضية الفلسطينية وهي لم تقم بأي عمل على الأرض لتحقيق ذلك، كما انها لم تتمكن من لجم إسرائيل في هجمات المستوطنين الإسرائيليين وتدميرهم لبلدة الحوارة، وقتل العديد من المواطنين الفلسطينيين، وقد اقتصرت المواقف الأميركية على التصريحات الكلامية التي لم تعرها الحكومة الإسرائيلية أي اهتمام.
وبما أن جميع المواقف في السياسة الخارجية الأميركية تنعكس بصورة مباشرة على الداخل، فلا شك بان أخصام الرئيس بايدن في الحزب الجمهوري سيستغلون هذه الخسارة الأميركية لتوجيه شتى أنواع اللوم والتهم للرئيس ولتحميله مسؤولية التراجع الأميركي في المنطقة، خاصة إذا أعلن ترشحه، كما هو متوقع، لدورة جديدة في الإنتخابات الرئاسية التي ستحصل العام القادم. - ثانيا، بالنسبة الى إيران: في الوقت الذي تفرض فيه الولايات المتحدة المزيد من العقوبات على إيران للضغط عليها في الملف النووي وعزلها اقتصاديا وسياسيا، نرى أن حليف الولايات المتحدة العربي الأقوى يوافق على إعادة علاقاته مع ايران مع ما قد يرافق ذلك من تفلت من العقوبات.
- ثالثا، بالنسبة الى السعودية، أثبتت هذه الدولة امكانية تقرير مواقفها ومصالحها بمعزل عن الضغوط والرغبات الأميركية، وهي من هذا المنطلق تنوع علاقاتها بما تراه يتناسب مع مصالحها، ومع أن إعادة العلاقات الدبلوماسية مع إيران ليس من مصلحة الولايات المتحدة على الإطلاق، فقد وافقت المملكة على تنفيذ ذلك غير آبهة بالمصالح الأميركية، وفي ذلك دلالة واضحة على رغبة السعودية في المضي باتخاذ القرارات التي تناسبها وتفيدها باستقلالية تامة.
ملفت أيضا أن نرى تقاربا سعوديا-صينيا بعد أيام قليلة من توجيه الصين انتقادات قوية للولايات المتحدة وتلميح غير مسبوق بأن مواقف الولايات المتحدة في حال استمرارها قد تؤدي الى مواجهة مع الصين. - رابعا، بالنسبة الى الدول التي لإيران امتدادات في داخلها مثل اليمن وسوريا والعراق ولبنان، الأمر يتوقف على كيفية تعاطي إيران مستقبلا مع هذه الدول وهل ستستمر بدعم المجموعات التابعة لها بالسلاح والمال؟ لقد تم الإتفاق على إعادة العلاقات الدبلوماسية بين إيران والسعودية في مهلة شهرين من الزمن، وفي خلال هذه المهلة سيتم مراقبة ما ستفعله إيران مع هذه المجموعات التي تنفذ سياستها داخل هذه الدول وفي المنطقة.
- خامسا، بالنسبة الى الصين: لقد حققت هذه الدولة انتصارا دبلوماسيا كبيرا عبر دخولها منطقة الشرق الأوسط دخولا سياسيا بقوة ودون أية كلفة سياسية أو مادية أو عسكرية، وذلك على عكس الوجود الأميركي أو الروسي في المنطقة. والملفت أن هذا الإنتصار الصيني الهام حصل يوم تسلم الرئيس شي جينبينغ ولايته الثالثة كرئيس للصين. كما أن هذا الدخول لن يكون مؤقتا لأن الصين أصبحت المرجع الصالح لتنفيذ الإتفاق إذ في حال وجد أحد الطرفين أن الطرف الآخر لا يقوم بتنفيذ ما يتوجب عليه، فإنه سيتوجه مباشرة الى الصين وليس الى الولايات المتحدة أو الأمم المتحدة أو روسيا، لأن الصين هي راعية الإتفاق وهي الآن المرجع الأول والأخير للتأكد من تنفيذ بنوده.
جدير بالتوضيح أيضا أن هذا الإتفاق سيعزز الثقة بالصين ليس فقط في الشرق الأوسط بل أيضا في الدول الأخرى التي للصين تواجد فيها مثل دول أفريقيا حيث سعت الولايات المتحدة الى منافسة الصين عبر القمة الأميركية-الأفريقية التي عقدتها في واشنطن في منتصف شهر ديسمبر المنصرم، كما أن تقوية دور الصين ونفوذها السياسي مستقبلا مع أكبر دولتين في الشرق الأوسط سيعطي الصين زخما قويا في علاقاتها الدولية بصورة عامة وذلك على حساب الولايات المتحدة.
من هنا، ستجد الولايات المتحدة نفسها ملزمة في مضاعفة جهودها لاستعادة بعض المصداقية التي فقدتها في تعاطيها مع دول الشرق الأوسط، كما أن عليها أن تعي أن العالم أصبح متعدد الأقطاب، وأن الصين سيكون لها دور في الكثير من الأمور الدولية وهي جاهزة لملء أي فراغ قد تتركه الولايات المتحدة. ولا شك أن تساؤلات كثيرة ترد الى الذهن منها هل أصبح العالم على عتبة حرب باردة جديدة قوامها الصين وروسيا وإيران وبعض الدول الأخرى من جهة، والولايات المتحدة وأوروبا وبعض الدول المتحالفة معها من جهة ثانية؟ وكيف ستحاول الولايات المتحدة استرجاع الثقة التي فقدتها، وكيف ستتعامل مع السعودية بصورة خاصة بعد هذا التقارب السعودي مع الصين التي هي على خلاف قوي مع الولايات المتحدة؟
أما السؤال الأهم فهو هل ستحاول الصين قريبا، كونها إحدى الدول الموقعة على الإتفاقية النووية الإيرانية، الضغط على إيران للعودة الى هذه الإتفاقية ووقف تخصيب اليورانيوم، وبذلك تكسب ود الولايات المتحدة وفي الوقت نفسه المزيد من النفوذ السياسي في العالم؟
بضعة أشهر فقط تكفي لمعرفة الإجابات عن هذه الأسئلة.