بقلم: د. خالد التوزاني
إن العيش في أزمنة عجاف، يجعل المرء يقظا مترقبا نزول الأهوال في كل وقت وحين، وسوف نخصص هذا المقال لبعض أهوال القرن الحادي عشر الهجري الذي شهد أحداثاً جساماً؛ ففي سنة تسع وثلاثين وألف اجتاح مكة سيل عظيم “سجدت لله فيه الكعبة” ، وفي سنة ثلاث وسبعين وألف، هجم السيل مرة ثانية “فخرب غالب أسواق مكة، وهدّ دورا كثيرة وأتلف أموالا عظيمة، ومات فيه الناس، وهدم دار بعض أرباب الدولة.. ودخل المسجد الحرام.. حتى امتلأ المسجد كله، وارتفع الماء فيه إلى أن ذهب بقناديل المطاف كلها وما في المسجد من دواريق وبسط، وارتفع على قبة المقام.. و ملأ كل بيت وخزانة في المسجد.. وطاف بعض الناس بالبيت عوما ممن يحسن السباحة، وكان ذلك الماء أمرا مهولا” . وفي سنة أربع وسبعين وألف، “وقعت أمور هائلة بإقليم أصفهان، وخسفت الأرض بمدن وقرى وجبال، ووقع تحويل لبعض القرى من مكان إلى مكان، وخسف بأكثر مدينة تبريز، وهي من قواعد ذلك الإقليم.. وكون الخراب فيها أتم” . وفي مدينة بسكرة من بلاد المغرب الأوسط قتل الوباء سبعين ألف نفس، وقد دخلها الرحالة المغربي أبو سالم العياشي عقب الوباء فوجد أكثر حوماتها خاليا ومساجدها داثرة .
هكذا تتيح الرحلة في الآفاق اختراق حجب المكان والزمان لنقل أحداث نادرة تؤرخ لمعاناة الإنسان في الأزمنة العجاف، وكيف نجح في التكيّف مع الجفاف والتغلب على أنواع البلاء والجفاء، والانتقال من وضع العتمة إلى الإشراق، حيث يحضر التصوّف بما فيه وما عليه، ليمارس دوره في هذا السياق، ومع رحالة مغربي جاب الآفاق، فنقل الأشواق والأذواق، وذكر ما ذكره من أصداء الزمن الصعب، نتتبع ملامح العصر، حيث السّبعُ العِجاف، التي طال أمدها في البلاد فامتدت لقرن من الزمان.
شهد القرن الحادي عشر الهجري بالمغرب أفول نجم دول وقيام أخرى، حيث عجّلت بعض العوامل بانهيار الدولة السعدية وخاصة بعد وفاة المنصور الذهبي سنة 1012هـ “بعدما ذهب إلى فاس لتأديب ابنه الثائر عليه محمد الشيخ المامون فأخمد الثورة وأودع ابنه السجن، ولكن الوباء حل بالناحية فمات المنصور دون أن يبت في أمر ولاية العهد” ، فأدت النزاعات بين أبنائه “في طلب العرش والفوز بصولجان الملك” ، إلى قطيعة رحم وانقسامات أضعفت الدولة، وأثارت بعض الأطماع الخارجية التي بدأت تتربص بالبلاد الدوائر وتنتظر الفرصة للاستحواذ على بعض الحدود والثغور وخاصة في الشمال المغربي.
يبدو أن أسوأ مشهد عرفه المغرب في هذا القرن هو ما شهده من انقسامات عندما وَهِيَ أمر الدولة السعدية، و”اختل نظامها وتساوت فيها الأسافيل والأعالي، ونبغ في كل جهة قائم، وصاح في كل كدية ديك، وتقاسم الثوار البلاد، وصاروا كملوك الطوائف في الأندلس” ، وقد “بلغت هذه الحالة السيئة منتهاها حوالي 1040هـ حيث كادت تستقل كل جهة بملك، حتى إن ناحية تازا قام فيها اليهودي ابن مشعل وبنى حصنا منيعا له وجعله مقر إمارته (…) كما أن أتراك الجزائر استطاعوا في هذه الحقبة المظلمة من تاريخنا، أن يدخلوا إلى وجدة وهي على الحدود ويسعوا في الاستيلاء عليها وضمها إلى ممتلكاتهم” ، وقام الثوار في كل ناحية ، واستولى الأجانب من اسبان وبرتغال وانكليز على مراسي المغرب وطمعهم في داخله . ولم تستقر الأوضاع إلا مع المولى الرشيد بعد خوضه لحروب استمرت سبع سنوات وهي المدة التي قضاها في الحكم، فحقق بذلك للمغرب وحدته واستقراره باعتبارها مرحلة أساسية لانطلاق مسيرة البناء الحضاري مع ملوك الدولة العلوية الشريفة.
إذا كانت أزمات الحكم والنزاع على السلطة، أمرا متوقعا في كثير من الدول، فإن المشهد يبدو صعبا ومقلقا، عندما تضاف إليه أزمات الغذاء والوباء والغلاء، وما يترتب عن ذلك كله، من ظهور للفتن وانهيار للقيم؛ حيث زاد من أزمة البلاد اجتياح الوباء للمغرب من سنة 1007هـ إلى 1016هـ، وساعد على انتشاره بفاس، فيضان عظيم خرّب المنازل والقناطر والأسواق، حتى وصل الماء إلى باب البرادعيين . وكذلك سنوات الجفاف والغلاء ، فعاشت البلاد وضعية حرجة عبرت عنها كتب التاريخ والسير التي أرّخت لتلك الفترة العصيبة ، حيث “شاع احتراف السلب والنهب في الأموال والنفوس” ، وانتشار الأوبئة والمجاعات، حتى قال الشاعر:
يا من عن الغَرْبِ عام الجُوع قد غربا
لا تنكرن على من جوعه غَلَبا
إن حَــدَّثُوكَ أحـاديث إذا سمعـــت
يَظَّلُ سَـامِعها يقول واعَجَـبا
اشدد بعــام يكاد الزَّرْعُ فيــه يكـون
كالنّدَى فَيُبَاعُ وزنـــه ذَهَبا
ما أعظم الأمـر إِذْ كانت تَعُودُ بـــه
التَّمْرُ تِبْرًا وعـاد حَشفه رُطَبـَا
وقد وصف أبو سالم العياشي ما حل بالبلاد من فتن وجوع، قائلا: “في سنة تسع وستين دبت في مغربنا عقارب الفتن، وهاجت بين الخاصة والعامة مضمرات الإحن، فانقطعت السبل أو كادت، وماجت الأرض بأهلها ومادت، (…) وأضرم الجوع في سائر الأرجاء ناره، فتولد منه من الفتك والحرابة ما أعلى تفريق الكلمة مناره، وتطاير في كل أفق شَراره، وأهان خيار كل قطر شُراره، واتخذت البدعة شعارا، والزندقة دثارا، وفر الساكن من بلده، والوالد من ولده” . ومن طرائف الشعر التي تؤرخ لهذه الحالة السيئة، قول شاعر في درعة:
يَطُوفُ السَّحَابُ بدرعة كما يطوفُ الحجيج بالبيتِ الحَرَام
تُريـدُ النُّزُولَ فلمْ تَسْتَطِــعْ لسفكِ الدِّمَاءِ وَأَكْـــــــلِ الحَــرَام
وقد تحدث صاحب الاستقصا عن غلاء سنة 1073هـ الذي تسبب في “مجاعة عظيمة أكل الناس فيها الجيف والدواب والآدمي، وخلت الدور وعطلت المساجد” ، ووصف اليوسي ظلم الجباة وصفا دقيقا مؤثرا حيث قال: “قد جردوا ذيول الظلم على الرعية، فأكلوا اللحم وشربوا الدم وامتشوا العظم وامتصوا المخ، ولم يتركوا للناس دينا ولا دنيا” . أما صاحب المطرب فشبّه كثرة الفتن بنزول المطر، حين قال: “في وقت كانت الفتن فيه كنزول المطر من السماء، حروب طاحنة متوالية بين السعديين والعلويين وبين المسلمين والإسبانيين والإنجليزيين، وثوار متلصصون هدفهم الإفساد في الأرض ونهب الأموال، يضاف إلى ذلك ما كانوا يصابون به من نكبات الحياة كضيق في المعيشة، وارتفاع في الأسعار، وجدب وقحط وزلازل وهزات” ، حيث عرفت مدينة فاس زلزالين عنيفين؛ الأول في رجب سنة 1030هـ والثاني في رمضان سنة 1075هـ فاغتم الناس وعمهم الرعب، واعتقدوا في الحالتين أنها الساعة لا محالة . وقد وصف عبد الرحمن التامنارتي وغيره ممن عاصر تلك الأحداث، التي نال المغرب فيها من الفساد والفتن ما “طاش لها الوقور.. ووضع النفيس وارتفع الخسيس، وفشا العار وخان الجار ولبس الزمان البؤس وجاء بالوجه العبوس.. وطأطأ الحق نفسه وأخفى المحق نفسه.. ووردت المهالك وسدت المسالك وعمّ الجوع” ، فمن يغيث الملهوف؟
شكّلت المآسي الشديدة التي عرفها المغرب خلال القرن الحادي عشر الهجري دافعا قويا للبحث عن الخلاص، وقد قال أرسطو: “ينبغي أن نستعين في المآسي بالأمور العجيبة”، فكان الهروب من مآسي الزمن الصعب إلى كرامات الصوفية، حيث زهد الناس في الدنيا و”انتشرت ظاهرة اليأس وأخذ الناس يتعلقون بالأولياء والصالحين” ، والتفوا حول الزوايا التي كانت سندهم، وحاولت التخفيف من نوائب الدهر؛ بإطعام الطعام وإيواء المساكين وتنظيم مواسم الاستسقاء والتضرع والتوسل إلى الله بكشف الكرب من خلال الأذكار والأوراد وإنشاد التوسلات وقصائد تفريج الكربات، وبذلك برز نجم الصوفية في البلاد وعلا صيتهم في الآفاق ، وتجددت الدعوة لتقوية الروح مادام الجسد قد اجتاحه الجوع أو البلاء والوباء، مما يقوي أطروحة ارتباط التصوف بمظاهر الأزمة.
هكذا، لعب الصوفية دورا بارزا في الحفاظ على انتعاش الحياة الفكرية والأدبية بالمغرب، بإحياء العلوم وتدريسها والتصدي لمظاهر الجهل والإفساد كالبدع وأنواع الظلم والضلالات، وخاصة في بعض الأزمنة الصعبة التي يغيب فيها الأمن المادي والمعنوي، فتقف الزوايا مؤازرة للناس حامية للدين والعلم، وعلى الرغم من فتوحات الصوفية في الزمن الصعب الذي عاش فيه رحالتنا العياشي، إلا أن بعض المنتسبين للصوفية قد أساؤوا للتصوف من خلال ما أحدثوه من بدع وأمور منكرة جعلت كثيرا من الناس يفقدون الأمل في الخلق ويلجؤون إلى سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم بنظم قصائد المديح النبوي والتوسل بالرسول لدفع الردى، وفي هذا المعنى يقول العياشي: “فعلمت أنه لا ينجي إلا اللجأ إلى الله والتوسل إليه بخالص أحبائه وإمام أنبيائه سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم؛ ففزعت إلى عادتي المعروفة، وسجيتي المألوفة، من مدح المصطفى وقبلة أهل الصفا، لما عوّدني الله تعالى عـند امتداح نبيه من تفريج الغموم، ونيل المطلب المروم” ، وكلما زادت الشدائد زاد مدحه للنبي صلى الله عليه وسلم ، حتى جعل المدح خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم وأن مدح غيره عليه السلام إنما هجاء وذم، قال أبو سالم:
إذا ضاق بي أمر وكانت وسيلتي
إلــى الله مـــدحــي للنـبي تـــفــــرجـــا
وقِدْمــا به قـد فــــــــــرج الله كربتــي
ويسر لـي مــن فضلــه كــل مــرتــجــا
وجربت في دفع الردى كل حيلة
فلــم أر في شــيء ســـوى مدحه النجا
فما المدح إلا ما يخص جنـابـــــه
ومدح سواه في الحقيقـة كالـــهجـــا
وواضح أن لجوء المغاربة في الأزمنة العجاف لمناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعكس رؤية خاصة نحو الكون والوجود؛ حيث فقدوا كل أمل كان عندهم في الولاة والحكام والعلماء والصلحاء، فلم يبق إلا خير الورى يستشفعون به الله في دفع الردى، ورفع ما حل بهم من الوباء والبلاء، وقد مثَّل الرحالة المتصوّف أبو سالم العياشي نموذجا لهذا التوجّه، حيث قال:
إذا نابني أمـر فزعت لمدحــــه
فأعطى به خيـرا وأكفـى بــــــه رزءا
أناجي رســـــــول الله بالســـــــر تارة
وأشكـو إليــــــه بعدها الحـزن والبثا
وأطلب من مولاي مستشفعا به
هدى وسرورا قارن الموت والبعثا
حيث يبلغ العياشي في مدحه للنبي صلى الله عليه وسلم مقاما يجعل المدح مقتصرا عليه وحده صلى الله عليه وسلم، حيث يذكر أنه جرب كل وسيلة لدفع الردى والأذى فلم يجد مثل مدح النبي صلى الله عليه وسلم وسيلة لتفريج الكرب، ولذلك فهو يتوسل به إلى الله في كشف كل شدة، وفي هذا المعنى يقول:
فيا رب فاجعل لي بجاه محمد
حبيبك من كل الشدائد مخرجا
وهكذا كان مدح النبي صلى الله عليه وسلم بابا لإغاثة الملهوف في أزمنة عجاف عصفت بالنفوس والعقول وشيّبت الرؤوس، في عصر كسر المألوف وخالف المعروف في عهود الرخاء والعيش الرغيد، لينشأ الإنسان في دهر يقصم الظهور، ويجعل المرءَ يقدّر جيدا قيمة الاستقرار، ونعمة الأمن والصحة والفراغ، نِعَمٌ مغبون فيها أغلب الخلق.