بقلم: سونيا الحداد
هناك في أرض الحكمة حيث السماء والأرض يتعانقان تولد الأساطير. عليك أن تدخل معبدها المعلّق لكي تستحق سماعها واكتشاف اسرارها!
أرض قديمة قدم الزمان، عفيفة عفة العذراء وبريئة براءة عيون الأطفال. كل شيئ فيها كالحلم. نسيمها عليل بعطر الورود يداعبك مداعبة الملآئكة لروحك. نورها لا مثيل له في عالمنا، ساطع جدا دون لهيب. يقولون عنها أنها جنة الأنسان. منازلها عديدة ولآ ابواب لها، يدخلها كل عابر سبيل في طريقه نحو المعبد المعلق. كلما دخل بيتا من بيوتها، يستضيفه صاحب الدار أجمل استضافة وقبل متابعة رحلته يعلق في عنقه سلسال حكمة، ويطلب منه ويشدد عليه أن يقرأها ويحفظها غيبًا في طريقه قبل الوصول الى المعبد المعلّق.
المسافرون في هذه الحياة أنواع وكل له قناعاته وميوله وتقاليده. هناك المسافر الذي يتوقف ويقرأها قبل متابعة المسيرة. يتشكر صاحب المنزل على الأستضافة وعلى النعمة التي أهداه أياها، زادا يعلقه في رقبته يساعده في طريق سفره نحو المعبد المنشود. وهناك من يشبه مسافرنا في هذه القصة، الذي يعتقد بأنه يعرف الكثير وأن الوصول الى المعبد أهم من أن يتوقف طويلا من أجل قراءات فلسفية أعطاه اياها صاحب الدار كمجرد هدية او ذكرى منه. أنه يعرف الحياة وأسرارها وليس بحاجة الى حكم هنا وهناك وبالمئات. أنه مستعجل الوصول الى هدفه ولآ يريد لأي شيئ أن يعرقل مسيرته أكثر. يرمي السلسال في حقيبته ويتابع السفر دون الألتفات اليه أبدا متوجها الى المنزل الثاني حيث يعطيه أيضا صاحب الدار حكمة أخرى وينصحه هو أيضا بقرائتها والتمعن بها قبل متابعة المسيرة. وكما فعل بالأولى يفعل بالثانية والثالثة وفي كل المنازل التي يعبرها الواحدة تلو الأخرى، وبعد كل منزل يشعر بأن حمله أصبح أكبر وأثقل، وبات السير على طريق السفر هذه طويل وشاق أكثر قبل أن يصل الى المنزل الأخير الذي يمكن العبور منه الى المعبد المعلق!
هذا المنزل الأخير ليس ككل المنازل. الريح التي تمر به شديدة. ترعب المسافر الذي يتزعزع خوفا من رهبة المكان الذي يهدد سلامته وثقته بنفسه. يتردّد في الدخول ولكنه يسمع صوتا خافتا ماردا وكأنه يخرج من داخله يسأله: «هل قرأت الحِكَم التي أعطتك اياها منازل الحياة؟» عليك أن تقول لي كيف تعاملت معها وماذا استخلصت منها، لكي تستحق دخول المعبد والتنعم به. مصعوقا من الدهشة، يجلس المسافر في أرضه مخطوف الانفاس ويبدأ بقراءة حِكَمه المكدسة عبر سنين السفر في حقيبته البالية. فكره مشتت لا يتمكن من التركيز على قراءة حكَم فات عليها الزمن ولم يستفد منها. ولكن لآ خيار له وعليه بالقراءة. ما أن يبدأ بقرائتها حتى شعر وكأن الحكمة بدأت تدور حوله وأمامه وانه هو اللآعب الرئيسي فيها. يُصعق في البدء من هول المفاجأة، يغضب غضبا شديدا كيف يتم الأعتداء على مكنونه الخاص دون أذن منه. بأي حق يدخل صاحب الدار الى ذاته ويعرّي سيرته وسريرته. لآ يريد هذا المسافر أن يتعرّى أمام أياُ من كان فكيف لو أن الذي أمامه هو غريب عنه؟ غضب يعمي بصيرته، يأجج النار في صدره ويدفعه الى تبنّي كل الأفكار الشريرة التي تنهش صدره. يلجأ كالأعمى الى الضرب بالنار كل من يقف أمامه، يضرب ضربا بلآ رحمة ولآ تقدير لأهل الدار، لأطفاله ونسائه وشيوخه. يستمر في جنون العظمة، يستمر في جنون الغضب الى أن يدمّر كل شيئ حوله، كل شيئ…. فجأة يحل الصمت! صمت ثقيل رائحة الدماء تفوح منه. الدمار شامل، الجثث مبعثرة في كل مكان. جثث لأرواح لم تعرف لماذا تموت. لقد قتل جميع أهل البيت وكل من كان السبب في تعريته أمامهم. يقف هذا المسافر مصعوقًا هو أيضا، لآ يتمكن من أخراج أي صوت من فمه، هل أصبح أخرسا؟… يحاول تحسس وجهه وجسده ولكنه لآ يتمكن من الحراك… يريد أن يقرأ الحكم التي أهملها ولكن لا يمكنه الكلآم. فجأة يأتيه صوت يخرج من أعماق رأسه. صوت يتملكه كليا قلبا وقالباً وكأنه صوت الضمير. صوت يقرأ له كل الحكم التي لم يعرها اي انتباه، والتي أهملها. حِكم تحمل سر الحياة الذي ينشله من الهلاك في ظلام الهفوات. القراءة تستمر ومعها الدموع تنهمر، والجسد واهن يرتجف. والقلب يتألم حسرة على فرص ضائعة وأرواح تكسرت أجنحتها على منبر الغطرسة والتكبر والشهوات الجارفة. الروح على شفير الموت حزنا وندما. كل شيئ تدمّر. غضبه دمر وقتل كل شيئ حتى نفسه.
الصمت بات ثقيلا والظلام يسدل ستاره. ظلام دامس كظلام الموت يلفّه. إنه يدخل ممر الموت. يغمض عينيه ويترك الظلام يلفّه بوشاحه البارد، وشاح الحزن والندم محلقا، محلقا. الصمت ثقيل، ثقيل جدا. أنه معلق في الظلام، في الصمت في الفراغ، بين الموت والحياة. يناجي العليّ لعله يسمع توبته، فهو السميع العليم. يشرح له مصدر العتمة التي حلت بروحه والعليّ يؤشر له مخرج النور. متشحا لحاف الضباب، يمسك بيده بكل حنية والى مخرج الحرية يقوده.
شحنة من الحنان تلف كيانه، شعلة من نور تنير داخله.
فهم الآن ما قاله له صديقه الناسك يوما
هل تذكُر يا صديقي صمتَ الأرجوان؟
حيث لا مساءَ ولا نهارَ
حيث الفراغُ الشّاملُ
هو سيّدُ المكان
حيث الضَّباب والصحوُ
يلتقيان معاً في شفَقٍ
حيث النّورُ والظّلامُ يتعانقان في هالةٍ
تَدخـُل روحُكَ شَرْنقتَها
تبحثُ في الوجدان
تسبَح هائمَة في سرِّ خالق الأ كْوان
تختَلجُ
وفي سكونِ الحاضِر تندَهشُ
تاركةً لخلجاتِ روحِها اليَرقة
كُلَّ العَنان
لتولَد بعْدَها فَراشَةً
تَخطَّتْ حَدَّ الآن
تحَلِّقُ ذاتها
فرِحةً بنَشْوةِ الحُرية
مُتناغِمَةً في عالم الأُرجوان؟
دَعْ روحَك يا صديقِي تخـتلجُ وتَتوهْ
تتسائلُ وتَبحث
تنطَوي وتتَفتَّح
من شَرنقَتها ستَـتحرَّر يوما
لآ مَحال
ساعة يؤون لها الأَوان!
يفتح عيناه والدم يعود الى أطرافه تدريجيا. سكينة غير اعتيادية، حفرت سرها في أعمق أعماق روحه، ختماً يذكره المعبد المعلّق. هناك حيث أسطورة النور تولد، زهرة في القلوب متألقة، وُلدت جذورها في غياهب الظلام وأنتصرت عليه. أسطورة جمالها من سنا السر الكوني!