بقلم: د. حسين عبد البصير
نعرض فيما يلي بعضًا من نماذج السير من عصور مصرية متنوعة.
سيرة الموظف حرخوف
تعتبر سيرة الموظف حرخوف المنقوشة على واجهة مقبرته بأسوان من أهم وأروع السير في عصر الدولة القديمة وأكثرها كثافة وتفاصيل وإثارة وتشويقًا وإظهار للحياة خارج مصر ودور مصر الخارجي في النوبة في نهايات عصر الدولة القديمة. ولعل من أروع ما فيها ذلك الخطاب الذي أرسله الملك الطفل بيبي الثاني إلى حرخوف يوصيه فيه بالحفاظ على القزم الذي أحضره معه. وتعد ظاهرة تضمين خطابات من الملك لموظفيه من الملامح الجديدة في سير الدولة القديمة. وتظهر تلك السيرة أيضًا تطور ونمو فن السيرة، وتحوله إلى جنس أدبي متميز في ذلك العصر المبكر.
سيرة أحمس أبانا
تعد سيرة أحمس ابن أبانا واحدة من أفضل السير في عصر الدولة الحديثة. وهي منقوشة في مقبرته بالكاب بمصر العليا. وترجع أهمية ذلك النص الأدبي إلى كونه وثيقة تاريخية فريدة تحكى قصة طرد الهكسوس من مصر من منظور عسكري مصري كان شاهد عيان ومشاركًا في معارك تحرير مصر من محنة الاحتلال الهكسوسى البغيض. وفى ذلك الصدد، يقول أحمس ابن أبانا:
«الآن عندما كونت أسرة، ألحقت بالمركب «الشمالية»؛ لأنني كنت شجاعًا. وسرت خلف الحاكم على الأقدام عندما كان يقود عربته الحربية. وعندما حوصرت بلدة أواريس، قاتلت بشجاعة على الأقدام في حضور جلالته».
فن السيرة في الدولة الحديثة
ترجع سيرة باك إن خونسو – المنقوشة على تمثال كتلة حاليًا بمتحف الفن المصري بميونخ بألمانيا وكان أصلا في معبد آمون بالكرنك بالأقصر – إلى الأسرة التاسعة عشرة. وشغل باك إن خونسو منصب كبير كهنة آمون لمدة عشرين عامًا بداية من العقد الثالث من عهد الملك الشهير رمسيس الثاني. ويقول باك إن خونسو في جزء من سيرته:
«أيها الكهنة، وآباء الإله، والكهنة المطهرون في معبد آمون: اعطوا باقات إلى تمثالي، وتقدمات لي، «لأنني» كنت خادمًا فعالًا ليس يده، متسقًا مع ماعت وكرهت الشر، ومعظمًا من أنعم إلهه؛ كبير كهنة آمون، باك إن خونسو، «صادق الصوت».
السير الذاتية في العصر الصاوي
توضح سيرة باى إف إتشوا إم عاوى نيت أنشطة الترميم والحفاظ على تراث الأجداد والأسلاف التي اتبعها ملوك الأسرة السادسة والعشرين الصاوية. ففي نهايات العصر الصاوي، جاء هذا الموظف المهم باى إف إتشوا إم عاوى نيت من الشمال في مهمة ملكية لترميم وإصلاح وإعادة بناء معبد الإله وغيره من شئون أبيدوس والإقليم الثينى في جنوب مصر. وهذه السيرة منقوشة على تمثال موجود بمتحف اللوفر في باريس في فرنسا ويحمل رقم «93 أ». وفى مختتم سيرته، يقول باى إف إتشوا إم عاوى نيت راجيا من الإله:
«يا ليته يعطى الحياة لولده، أمازيس «الاسم اليوناني للملك أحمس الثاني» ابن نيت، يا ليته يعطيني هبات من الملك، وتبجيلًا أمام الإله العظيم! أيها الكاهن، امدح الإله من أجلى! يا أيها الذين تأتون من المعبد مباركين، قولوا: يا ليت المشرف على القصر الملكي باى إف إتشوا إم عاوى نيت، ابن نع إن إس باستت، يكون في مركب الإله، يا ليته يحصل على الخبز الأبدي بين أوائل المباركين».
السير الذاتية للنساء
تعد سيرة النساء قليلة في مصر القديمة وظهرت متأخرة عن سير الرجال. وتؤرخ سيرة تاى إيمحتب عهد الملكة البطلمية الشهيرة كليوباترا السابعة. وهذه السيرة مكتوبة على لوحة محفوظة حاليًا في المتحف البريطاني في لندن في إنجلترا وتحمل رقم 147. وتقص سيرتها إنجابها ثلاثة بنات وطفلها الذكر الذي طال انتظاره. وتقول تاى إيمحتب في هذا الشأن:
«هو «الإله» جعلني أحمل بطفل ذكر». ومن خلال ما تقدم يتضح لنا تميز وتفرد وقدم فن السيرة في الأدب المصري القديم عبر معظم عصور التاريخ المصري القديم. وأنه كان خير وسيلة تعبر عن طبقة النبلاء وتوضح بجلاء أفكارها ومعتقداتها وتراثها وتطلعاتها لما بعد الموت والحياة الأخرى. وأن تلك الطبقة كانت تسعى حثيثًا للقضاء على النسيان ومحاربة إهمال ذكرى وشأن وأمر صاحب السيرة بعد الموت. وأنه كان عند هذه الطبقة رغبة عارمة في الحفاظ على ذكراها حية طيبة ومتمتعة بموفور الجزل والعطاء الذى كانت تحظى به في الحياة الدنيا من أجل الفوز بأبدية لا شقاء ولا فناء من بعدها.
أسماء الفراعنة
كان للأسماء دلالة وأهمية كبرى في مصر القديمة. وصار الفراعنة على النهج الذي نتبعه الآن في تسمية المواليد وفقًا لاعتبارات خاصة بالأبويين خصوصًا فيما يخص المواليد المميزة كالمولود البكر، والولد بعد إناث، والبنت بعد ذكور.
تضمنت أسماء الأشخاص من حيث المحتوى مدلولات دينية الطابع وأخرى دنيوية. وتضمنت من حيث التركيب أسماءً بسيطة التركيب وأخرى مركبة. وكانت الأسماء الشخصية مختلفة في اللفظ والتركيب عن الأسماء الحالية، غير أن الخلفيات المعنوية تتشابه فيما بينها إلى حد ما.
وظهرت بعض الأسماء المصرية القديمة وكان هدفها تمني الخير للمولود أو صاحب الاسم نذكر مثل «سنب» أي سليم، و»مري» أو «مرو» و»حسي» والتي بمعنى محب ومحبوب وممدوح، و»نختي» أي شديد، و»عنخ تيفي» أي سوف يعيش طويلاً.
وكان يسمى الطفل باسم يميزه عن إخوته مثل «نبسن» أي سيدهم، و»باسر» أو «باحري» أي الريس، و»إيتسن» أي رئيسهم. وما تزال أسماء سيدهم وزينهم وأمير وحسن مستخدمة في مصر إلى الآن.
وظهرت مجموعة أخرى من الأسماء وكانت تحمل صفات جسمانية مثل الأسود أو الأحمر بناءً على لون البشرة أو الشعر. أو تسميات بما يعني الصغير، أو الطويل، أو جميل الوجه، وأبو رأسين، وأبو كف. وكان يُنسب المولود إلى بلدته أو محل ولادته مثل المنفي والطيبي كما يقال الآن طنطاوي وشبراوي وغيرها. أو يُنسب إلى حرفة كالنجار، أو الجندي، أو البدوي، أو الفلاح.
وظهرت في مصر القديمة أسماء مشتقة من ظروف وضع الطفل أو عبارة نطقت بها الأم أو الداية أثناء الولادة مثل «إيمحتب» أي الآتي في سلام، و»إيمسخ» أي جاء مسرعًا. وقد كان يُسمى المولود عرضًا باسم حيوان أو نبات أو شيء مثلما يقال إلى الآن تمساح، وديب، ونخلة، وصقر، والقط، والنمس، وفيروز.
وظهر في مصر القديمة أشخاص باسمين أو ثلاثة. فقد كان للشخص اسم عادي واسم كنية أو اسم دلع، أو اسم يختاره أبوه إرضاءً لأهله وآخر تختاره أمه إرضاءً لأهلها.
وغلبت النزعة الدينية على أسماء كثيرة في مصر القديمة تأثرًا بروح التدين ورغبة في الإشادة بالمعبودات والإقرار بفضلها مثلما يحدث إلى الآن حين نقول خير الأسماء ما حُمد وعُبد. فكانت هناك أسماء مثل «حسي رع» أي مداّح رع، و»باك إن آمون» و»حم رع» أي عبد آمون وخادم رع، وعبارات التنزيه مثل «أمنمحات» أي آمون في الصدارة. وكان الإنسان يحمل الاسم نسبةً إلى المعبود الحوري الإله «حورس»، أو «سيتي» نسبة إلى الإله «ست». أو كان يحمل استخارة الإله في مولده مثل «جد بتاح أيو إف عنخ» أي قال بتاح إنه سيعيش.
ويختلف تأثير هذه الكنيات أو الأسماء عن كنيات وأسماء أخرى ربما أرادت الأمهات أن يدفعن بها الحسد وعين الشر عن أطفالهن مثل «جار» أي العقرب، و»بنو» أي الفأر، و»سنحم» أي جرادة، و»نرخيسو» أي ما أعرفهوش، و»بورخف» أي العبيط؛ كما نقول الآن خيشة وشحته وشحات.
ولم يكن المصريون القدماء ينادون أطفالهم بأسمائهم كاملة دائمًا، وإنما كانوا يختصرونها ويحورونها وينغمونها مثل اسم الملك خوفو صاحب الهرم الأكبر والذي كان اسمه الكامل «خنوم خوفوي». وظهرت أسماء للتدليل أمثال إيبي، وبيبي، وتي، وتيتي، وشري.
واشتركت أسماء الإناث في مصر القديمة مع أسماء الذكور في بعض خصائصها وانفردت عنها ببعض آخر. ودلت أسماء الإناث أن الأسر كانت تتقبل مولد الأنثى بقبول حسن يقرب من الرضا بمولد الذكر. وقد اتسعت أغلب التسميات بالعذوبة والإعزاز والتدليل مثل «نفرت» أي الجميلة، و «نفرو» أي الجمال، و»بنرت» أي طعمة، و»سشن» أي سوسن، و»جحست» أي غزالة، و»نفرتاري» أي حلوتهم أو حلاوتهم، و «مررت» أي محبوبة.
وشأنها شأن أسماء البنين كانت تقرن كثيرًا بأسماء معبودات. وكانت أسماء البنات تختصر وتحور مثلها مثل أسماء البنين. وقد كان للأوساط الشعبية تعبيرات تنم عنهم فيما يخص التدليل مثل «تاميت» أي قطيطة، و»أوبت» أي فتفوتة، بل قد ظهرت بعض الأسماء التي ربما حملت خشية الأم من الحسد مثل «جمت موتس» أي التي لقيتها أمها، و»نرختوسي» أي ما حدش يعرفها، و»ستا إرت بينت» أي اكفها شر العين.
وليس من المستبعد أن روح التوسط النسبي في تقبل الأبناء والبنات ظل أثرها باقيًا في ترانيم الهدهدة التي ترحب بالمولود والتي ترددها الأمهات الشعبيات.
مصر القديمة باقية في مصر المعاصرة معبرة عن عظمة التواصل الحضاري بين الماضي والحاضر في مصر أرض التاريخ والحضارة ومعلمة البشرية.