بقلم: د. حسين عبد البصير
متحف إيمحتب
يعتبر متحف المهندس العبقري إيمحتب واحدًا من أهم المعالم الأثرية والسياحية في سقارة الأثرية في محافظة الجيزة في مصر. ويُنسب هذا المتحف إلى المهندس المعماري العظيم إيمحتب الذي عاش في عهد الملك زوسر مؤسس الأسرة الثالثة ومؤسس عصر بناة الأهرام ورأس عصر الدولة القديمة. وكان المهندس المعماري العظيم إيمحتب مسؤولاً عن بناء أقدم مجموعة هرمية في تاريخ البشرية جمعاء، وهي المجموعة الهرمية الخاصة بالملك زوسر بمنطقة سقارة الأثرية العالمية.
وصاحب هذا المتحف هو المهندس إيمحتب المهندس العبقري الذي عاش في عهد الملك زوسر، كما سلف القول. وقصة حياته مدهشة. وإنجازاته تفوق الوصف. وتوضح العلاقة بين ذلك الملك وذلك المهندس أهمية وجود صلات قوية تربط بين رجل الدولة ورجال بلاطه العظام. ومن الجدير بالذكر أنه ليس المهم أن يكون المرء وحده عظيمًا حتى يكون قائدًا ناجحًا فذًا يذكره التاريخ أبد الدهر، لكن المهم أن يحيط المرء نفسه بعدد من العباقرة الذين يسهرون على تحقيق أحلامه وطموحاته ويمدونه بالأفكار النيرة وينفذون خططه غير المسبوقة ويطورون الواقع متجاوزين الممكن إلى سماوات المستحيلة الرحيبة والبعيدة. وهكذا كان الحال فى حالتنا هذه، حينما كتب القدر أن يعيش ذلك المهندس العبقرى إيمحتب (والذي يعني اسمه «الذي يأتي في سلام») في عهد ملكنا الأسطوري الملك «زوسر» العظيم، من أوائل ملوك الأسرة الثالثة الفرعونية في عصر الدولة القديمة، كما أسلفنا، أو «العصر المنفي»؛ الذي أُطلق عليه هذا الاسم بسبب اتخاذ ملوك هذا العصر من العاصمة «منف» لاحقًا («إنب حدج» في زمن الملك زوسر) مقرًا لحكمهم، أو ما يعرف بـ»عصر بناة الأهرام»؛ نظرًا لما بناه ملوك هذا العصر الذهبي العظام من أهرام ليس لها مثيل لا تشهد على التقدم الهندسي والفلكي والمعماري فحسب، بل تشهد أيضا على عظمة وعبقرية المصري القديم الذي عزف سمفونية رائعة كى يدير منظومة العمل التي ساهمت في بناء هذه العجائب المصرية الفريدة باقتدار ما بعده اقتدار.
وإذا نظرنا إلى فترة حكم ذلك الملك زوسر أو «جسر»، والذي يعني اسمه «المقدس»، أو «نثري خت» أي «مقدس الجسد»، نجد أنه حكم مصر حوالي 21 عامًا تقريبا منذ 2667-2648 قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام. وكان هذا الملك من الملوك القلائل المهمين في تاريخ مصر الفرعونية. واستقر به المقام في العاصمة «إنب حدج»، وأراد أن يشيد أثرًا مهمًا؛ فهداه تفكيره، بمعاونة المهندس إيمحتب، إلى بناء الهرم المدرج في منطقة سقارة الأثرية (جبانة العاصمة المصرية القديمة العريقة «منف» لاحقًا)، كي يكون أول هرم يُبنى في العالم وأكبر بناء من الحجر على نطاق واسع في تاريخ البشرية.
وكان السبب في تحقيق وإنجاز ذلك البناء المعماري المعجز المهندس المعماري العبقري إيمحتب. وبدأ الملك العظيم زوسر التفكير في أن بناء أثر معماري فريد كي يكون علامة على عصره وبداية لفترة جديدة من تاريخ مصر المبكر وأن يكون رمزًا مميزًا له عبر العصور، فدعا في طلب رجل دولته المهندس المعمارى النابغة إيمحتب.
وتبدأ القصة في عاصمة حكم الملك زوسر، مدينة «إنب حدج» الخالدة، حين جلس الملك زوسر في بهو قصره الفخم يفكر ليلاً، فدخل إليه قائد حرس القصر الملكي يخبره بحضور رجل الدولة المهندس المعماري العبقري إيمحتب إلى باب القصر يطلب الدخول إلى حضرة الملك العلية. فأذن له الملك بالدخول إلى حضرته الملكية. وكان إيمحتب يفكر طوال الوقت منذ أن ترك بيته في الأمر الجلل الذي حمل الملك على دعوته في هذا الوقت المتأخر من الليل خصوصًا أنه كان مع الملك طوال اليوم يتناقشان في عدد من أمور وفنون إدارة الدولة.
وما أن دخل إيمحتب إلى حضرة مولاه حتى ألقى التحية على ملكه المقدس، فأمره صاحب الجلالة بالجلوس ثم بدأ في مفاتحته في أمر بناء مقبرة لجلالته تكون معجزة ليس لها مثيل من العصور السابقة وكي يسر ويسعد بها فؤاد الملك، ويُضرب بها المثل من قبل الأجيال التالية، وتكون مثار إعجاب اللاحقين من أبناء الأمة المصرية العريقة.
وأعطى الملك لمهندسه العبقري فترة قصيرة كي يفكر ويعرض على جلالته ما توصل إليه من أفكار معمارية مدهشة تليق بعظمة الملك زوسر وبعبقرية إيمحتب الفذة. وبعد فترة قصيرة، عاد إيمحتب بفكرة بناء هرم مدرج لمولاه الملك المعظم. وكانت تلك فكرة لم يسبقه أحد إليها، واتخذ من الهرم فكرة للصعود عليه كسلم يترقى إلى عالم السماء. ففرح الملك جدًا بهذه الفكرة. وأصدر أوامره لكل مؤسسات الدولة بأن توفر للمعماري العبقري إيمحتب كل ما يحتاج إليه كي يتمكن من بناء ذلك البناء الهرمي الجديد والفريد.
وبهمة ونشاط ليس لهما مثيل، أشرف المهندس العبقرى إيمحتب على بناء هرم مولاه الملك زوسر وأجزاء مجموعته الهرمية المختلفة. واستخدم المهندس العبقرى إيمحتب الحجر في تلك المجموعة الهرمية المبكرة على نطاق واسع لم يستخدمه معماري مصري من قبل. كما نجح في تنفيذ عناصر العمارة النباتية واللبنية السابقة في العمارة بالحجر على نطاق واسع في مجموعة الملك زوسر، فضلاً عن تحويل مقبرة مولاه الملك زوسر المقدس من مصطبة ذات مصطبة واحدة إلى هرم مدرج متعدد الدرجات تبلغ ست درجات من الحجر. واكتملت عناصر الهرمية الخاصة بملكنا زوسر، وصارت واحدة من أروع المجموعات الهرمية من عصر الدولة القديمة بفضل عبقرية المهندس المعماري إيمحتب وتفهمه لأوامر ورغبات مولاه الملك المحبوب زوسر.
وكان من مكارم إيمحتب العديدة التي لا يمكن نسيانها أن حدث في العام الثامن من عهد الملك زوسر، أغلب الظن، أن عز فيضان نهر النيل العظيم؛ فقلت الحبوب والمحاصيل الزراعية، وشعر جميع أهل مصر بوطأة وعظم أمر المجاعة التي لحقت بالبلاد. وساد الحزن القصر الملكي. وأخذ الملك المحبوب في البحث عن أسباب ذلك الجوع الذي حل ببلاده العظيمة ذات الرخاء القديم؛ فدعا إلى حضرته الملكية، أيضًا، رجل الدولة المحبوب إيمحتب وطلب الملك منه أن يتعرف إلى منابع نهر مصر الخالد والإله الذي يتحكم فيه؛ فاختلى العبقري إيمحتب بنفسه وبأوارقه. ورجع إلى الملك زوسر وأخبره بأن مدينة إلفنتين (في مواجهة مدينة أسوان الحالية في جنوب مصر) هي التي يتجمع عندها النهر وتتحكم في مائه. فقام الملك زوسر على الفور بتقديم القرابين لآلهة وإلهات المنطقة. وحينما نام الملك زوسر في تلك الليلة العصيبة، جاء إليه الإله خنوم، سيد منطقة إلفنتين، في المنام قائلاً: «أنا خنوم الذي خلقك، أنا الذي أؤيدك، أنا الذي خلق الأرض، وأعطيت الأحجار، فبنى بها الناس المعابد…، أنا نون العظيم (المحيط الأزلي)، أنا الفيضان….». ولما استيقظ الملك من نومه، أدرك عظمة وأهمية منطقة إلفنتين ورب أربابها المعبود الخالق، الرب خنوم؛ فأمر الملك بتخصيص عدد كبير من أوقاف وخيرات المنطقة للإله خنوم ومعبده وكهنته. وأصدر الملك أمرًا ملكيًا يخاطب فيه المعبود خنوم بحدود الأوقاف الملكية التي رصدها الملك لإلهه المبجل الرب خنوم.
ومن أفضال إيمحتب على الديانة الشمسية في عصر بناة الأهرام، أو عصر الدولة القديمة، أن ازدهرت كذلك مدينة أونو (أو «هيلوبوليس» أي «مدينة الشمس» باللغة الإغريقية وهي المطرية وعين شمس في شرق القاهرة حاليًا) في عهده ملكه المقدس الملك زوسر بفضل العبقري إيمحتب الذي حمل لقب «كبير الرائيين» أي المتطلعين للسماء لرصد حركة النجوم والكواكب والأفلاك في مدينة أونو؛ وفي ذلك ما يدل على تبحر إيمحتب في علم الفلك أيضًا.
وتقلد إيمحتب عدة مناصب مهمة في الدولة المصرية القديمة. وكان من بينها، مسجل الحوليات، وأمين أختام الوجه البحري، والمسؤول عن البيت العظيم أي «القصر الملكي». وكان الأول لدى الملك والتالي للملك. وحمل عددًا من الألقاب الشرفية مثل الأمير الوراثي. وكان الكاتب الملكي. وكان المسؤول عن البنائين. وكان الطبيب العظيم الذي تم تقديسه في العصور المتأخرة. وكان المصريون القدماء يفتخرون بمهارة إيمحتب التي ليس لها مثيل في الطب والأدب والكتابة والعمارة على مر العصور. وانتشرت صناعة التماثيل البرونزية المكرسة له في عصور الحضارة المصرية المتأخرة.
ونظرًا لإعجابه الشديد باعتباره مثله الأعلى والمثل الأعلى لكل المهندسين المعماريين الفراعنة، شيد المهندس المعماري الأشهر سننموت، باني معبد الدير البحري للملكة حتشبسوت، مقصورة للمهندس إيمحتب فوق المسطح العلوي لمعبد ملكته الأشهر، معبد الدير البحري بالبر الغربي لمدينة الأقصر. واُعتبر المهندس إيمحتب مساويًا لرب الطب عند الإغريق الإله «إسكيلبيوس». وكان الكتبة والمثقفون في مصر القديمة يعتبرون ربهم ومثلهم الأعلى؛ لذا كانوا يتمتمون باسمه، ثم يهمون بسكب قطرات من الحبر على أوراق البردي قبل البدء في عملية الكتابة المقدسة تبركًا به وتخليدًا لذكراه العطرة وسيرته المبجلة.
ونظرًا لكل ما تقدم وتقديرًا لهذا المهندس العبقري إيمحتب، قرر المجلس الأعلى للآثار في مصر، وبناءً على اقتراح ومشروع مقدمين من المهندس المعماري الفرنسي الشهير جان-فيليب لوير، القيام بإنشاء متحف خاص بذلك المهندس العبقري إيمحتب في منطقة سقارة الأثرية كي يحكي عظمة تاريخ ونشأة وعناصر المجموعة الهرمية الخاصة بالملك العظيم زوسر عبر العصور، وكي يكون شاهدًا، كذلك، على عظمة المهندس العبقري والنابغة إيمحتب، شيخ المهندسين المصريين القدماء، وكي يخلد كذلك العمل الجبار الذي قام به المهندس المعماري الفرنسي جان-فيليب لوير الذي قضى عمره كله لأكثر من ثمانين عامًا إلى جوار المجموعة الهرمية للملك زوسر يرمم فيها بجلد وصبر يُحسد عليهما، وفي رحاب زميله ومثله الأعلى المصري القديم المهندس العبقري إيمحتب. ونجح المهندس المعماري الفرنسي جان-فيليب لوير في ترميم وإعادة المجموعة الهرمية للملك زوسر إلى حالتها الكاملة كما كانت عليها الحال في العصور المصرية القديمة.