بقلم: كنده الجيوش
وصلت ليز تراس إلى رئاسة وزراء بريطانيا لتكون استثناء لقاعدة وكي تعيد إلى الذاكرة سيدة قديمة ومهمة – وان اختلفنا معها أو وافقناها – وهي رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت ثاتشر في ثمانينات القرن الماضي.
ومع اختلاف الأزمان والأزمات وحتى المفاهيم السياسية والأخلاقية – نوعا ما – التي تحكمنا الآن وبين ذلك الزمان هناك بعض من المواقف والحوارات التي تلخص الطريق السياسي والمفاهيم لهذا الشخص أو ذاك وهذا البلد أو ذاك.
من المواقف المشهورة جدا بين الملكة إليزابيث وبين ثاتشر هو الخلاف حول إدانة الحكم العنصري في جنوب أفريقيا إذ أرادت إليزابيث الإدانة تضامنا مع دول الكمنولث التي ترأسها وتحمل الكثير من الرمزية للتاج الملكي البريطاني وتاريخه وعامل التضامن فيه.
بينما ارتأت حينها ثاتشر انه لا يجب ان تتم الإدانة لان هذا سيكلف الاقتصاد البريطاني خسارة المليارات من الجنيهات من الصادرات الضرورية لاقتصاده جراء هذا الموقف.
والحقيقة أن أكثر ما يلفت هو جملتان في هذه المحادثة إذ أن ثاتشر تناقش الملكة وتقول لها بما معناه أن الملكة تتضامن مع مجموعة من القادة القبليين الذين يلبسون ثيابا ملونة ومزركشة .. وتقول الملكة هذا أنا وحكم بريطانيا كذلك.. أي أيضا ارتدي الألوان وأنا زعيم قبلي بشكل من الأشكال .. وترفض ثاتشر المقارنة لان بريطانيا اعرق.
ولكن جملة مفتاحية تقولها ثاتشر لتفسر للملكة بأنها ليست عاطفية في أمور الحكم وهي بِما معناه «أنا ادقق بالأمور واحكم عليها مثل نظرة المحاسب إلى صفحة الجرد او الحسابات خاصته.. وليس الى عواطف قبلية.» وذلك رغم أن ثاتشر كانت من المؤيدين للملكية.
وهذه الخاصية يمتلكها بعض السياسيين وبالتأكيد في أيامنا لازالت قائمة وناجعة ولكنها لم تعد ناجحة أو نافعة في كثير من المواقف وكثير من البلدان. . ولكنها لازالت موجودة حيث يتم استبعاد — بعض وليس كل — العوامل الإنسانية أو العاطفية في بعض الأحيان .
وتبقى السياسة هي فن المرونة بالمواقف والأفعال بالدرجة الأولى.
وبعض البلدان لها سمات تاريخية وسياسية وجغرافية تجعلها تخسر ماديا أحيانا في سبيل مواقف سياسية إنسانية كبيرة. . لان هذه المواقف هي في صلب الشخصية السياسية لهذا البلد أو ذاك سواء على الصعيد الداخلي أو السياسة الخارجية. وبعض المواقف هي من تصنع القادة .. والتاريخ.
ولكن ذلك يتطلب أيضا ان يكون السياسي على درجة كبيرة من القوة ليتبنى موقفا كبيرا ومكلفا سياسيا واقتصاديا بسبب أخلاقياته العالية.. ولا يجرؤ الكثيرين مثلا على موقف مشابه — على سبيل المثال— لموقف كندا المعارض إبان الحرب على العراق في ٢٠٠٣..
وهذا مثال وليس حصر لان هناك قادة تبنوا مواقف كبيرة حتى وان لم تكن القضية بحجم الحرب على العراق وبلد مجاور ضخم بحجم الولايات المتحدة.
والحق يقال أن كندا وقادتها يمثلون معظم الأحيان إن لم يكن دوما قيما وسياسات أخلاقية كبيرة وسياسة شجاعة تناسب هذا البلد العريق بشخصيته النبيلة — وان لم يكن له تاريخ قديم بحساب السنين. ورئيس وزرائنا الحالي جستن ترودو له الكثير من المواقف الخارجية والداخلية الكبيرة .. ولعل منها ثقته العالية بالنساء واختياره اللامعة كريستا فريلاند وكذلك ميلاني جولي… وهذا موضوع يفرد له زاوية…
ولكن مرة أخرى تعلمنا الحياة والسياسة المرونة ومحاولة التوفيق بين مختلف السياسات والمواقف بحيث نصل إلى الهدف في النهاية مع اقل قدر ممكن من الأضرار .. ومن هنا جاءت السياسة الواقعية او البراغماتية وهي أمريكية بجدارة … وهي موضوع مختلف.
ويبقى العظماء هم من يجدفون بالسفينة إلى الوجهة المقصودة دون ان يكون هناك أضرار جانبية كبيرة ودون أن يدفع الثمن أشخاص أبرياء على طول الطريق.. وان تكون فائدة وجائزة الرحلة عامة للجميع.