بقلم: محمد منسي قنديل
منذ عدة سنوات عندما كنت اعمل في الكويت، تعرفت على مستشار قضائي جاء للعمل معارا من وزارة العدل المصرية، تعرفنا في المطار، ووصلنا للكويت في الطائرة نفسها، ، واتفقنا على اللقاء عندما تستقر بنا الأحوال، وبدا أن احواله قد استقرت سريعا بطريقة أفضل مني بكثير، ففي الوقت الذي كنت اجاهد فيه للحصول على رخصة قيادة شاهدته وهو يتجول في الشوارع راكبا سيارة مرسيدس من الطراز الاحدث، وعندما سألته لماذا تعجل هكذا ولم نكد نستقر، قال لي انها كانت أمنية حياته أن يركب المرسيدس ولم يجد داعيا لتأجيلها أكثر من ذلك، وتعددت اللقاء وكان من الممتع أن اسمع ملاحظاته عن الاختلاف بين نوعية المتهمين الذين يقابلهم في الكويت التي تحتوي على أكثر من 120 جنسية عنهم من مصر، وكيف يبدو المتهم الأوربي متعاليا وغير مبال بما يمكن أن يحدث له وكيف يدافع عن نفسه واثقا أنه سيفلت من العقاب مهما كان الذنب الذي ارتكبه، في الوقت الذي ينهار فيه المتهم المصري حتى ولو كان بريئا في مواجهة أي سلطة رسمية، فنحن نمتلك نفسية هشة قابلة لتلقي العقاب سواء بسبب أو دون سبب، جميعنا نشبه شخصية المواطن “ك” في رواية كافكا الشهيرة المحاكمة عندما يدور التحقيق معه حول تهمة غير معروفة ولكنه يشعر أنه مدان دون أن يدري ماهي جريمته بالضبط، نحن نشعر دائما أننا مدانون أمام عدالة لا تتحقق أبدا.
لم يكن الحوار معه ينتهي، كنت نتحدث عن الارض الجديدة التي نعيش فيها دون أن ننسى الارض القديمة التي جئنا منها، الرابضة في داخلنا دون مغادرة، خلف كل هذا الحديث المتحضر المليء بالإشارات الثقافية كان هناك جانب بدائي في شخصيته، تعرفت عليه بالمصادفة حين عرفت أنه يذهب بانتظام لمنطقة خيطان المزدحمة بالعمال من الصعايدة الاجراء، واحدة من أفقر الاماكن بالكويت واكثرها ازدحاما بالعمالة المؤقتة الذين يعملون يوما ويتعطلون عشرة، واستمعت إليه وأنا غير مصدق وهو يحدثني عن عائلته، عن جذوره التي تمتد إلى الصعيد الجواني، حيث لا تستطيع عائلته أن ترفع رأسها على حد تعبيره، رغم أن فيها الكثير من المتعلمين الذين ارتقوا وأصبحوا يشغلون مناصب هامة، ولكنهم جميعا يشعرون بالدونية ازاء العائلات الأقل منهم تعليما ومكانة، كل هذا لأن لديهم ثأر لم يظفروا به، أحدى العائلات المنافسة قتلت منهم اثنين دون أن يستطيعوا الرد بالمثل، نظرت إليه حائرا، سألته: وماذا فعل القانون مع القتلة؟ كنت ادرك انني اخاطب رجلا من اقطاب القانون، ولكنه رد بلا اهتمام في جرائم الثأر لا يوجد قانون، ولا عدالة أيضا، كل شيء يقف عاجزا أمام صمت الشهود من الجانبين، لا أحد يريد اتدخل السلطات، ليس لأحد الحق في الظفر به سوى أصحابه حتى يتخلصوا من عار الخنوع، ثم باح لي بسره الخطير، الخطوة الثانية بعد المرسيدس هي مساعدة اسرته على استعادة كرامتها والحصول على السلاح اللازم، وعندما رأى درجة فزعي أكد أنه لي ليس وحده في هذا الأمر، هناك اطباء ومدرسون ومحاسبون يعملون في الكويت وخارجها يشاركونه في الهدف نفسه، ولذا فهو على تواصل مع بقية اقاربه ومعارفه من الصعايدة الاجراء الذين يسكنون في منطقة “خيطان”
الثأر هو الدم، كما هو معناه في اللغة، أثر قديم بدائي من زمن القبائل، طقس مقدس يساوي بين قتل القاتل وبعث الحياة في نفس القتيل، وكان العرب يعتقدون انه إذا سقط أحدهم قتيلا يخرج من رأسه طائر يدعى طائر الصدى، والصدى هو العطش، يظل يحلق فوق رؤوس اهله وهو يصيح: اسقوني.. اسقوني، حتى يدرك اهله الثأر فيكف عن الصياح، ولكن الاسلام جاء برؤيا مغايرة، جاء بفكرة القصاص الذي يقوم به ولي الأمر، اصبح هناك بديلا عن قوانين الصحراء المطلقة، ولكن فكرة القبيلة لم تنته تماما، ظلت كامنة في روح البلدان المتخلفة، طائر الصدى مازال يحلق فوق البيوت الطينية في في صعيد مصر حيث بقايا القبائل العربية القديمة التي استقرت في هذه المنطقة، لا يوازيها في قوة الدافع إلى الثأر إلا قبائل اليمن التي توازيها جنوب البحر الأحمر، وكلاهما من بقايا العرب العاربة، عندما كنت اعمل طبيبا في الصعيد جلس مع أحد شيوخ القرية، كان رجلا حكيما ومتعلما وأخذ يعدد لي انسابه القديمة، ظل يعود للوراء حتى اتي على ذكر اسلافه القدامى من بني مزينة، كنت مندهشا لأن الانساب العربية لا زالت حية ومحفوظة وأن اهلها يحتقرون كل من لا نسب لهم، كانوا يمتلكون ذاكرة عنيدة، لم ينسوا عاداتهم القديمة حتى ولو كانت دموية.
لقد اهملنا الصعيد منذ عهود طويلة، ليس على مستوى البنية الأساسية والخدمات فقط، ولكن على مستوى التعليم والتمدن، مصر كلها متخلفة، ولكن الصعيد هو أكثر اهلها تخلفا وبدائية، لسنا افضل منه حالا ولكنه غارق في دم الثأر، يدرك أن الدولة المركزية لا تعطيه شيئا، وأن اجهزتها اعجز من أن ترسي سلاما حقيقيا، كلها أطر فارغة تقوم بتمثيليات للصلح شبيهة بما يحدث في الافلام، اجتماع مع كبار العائلة، قراءة الفاتحة، وشخصا ما يحمل كفنه ، وتعهدات بالصلح يوقعها الطرفان، ويظل ما في القلب من ضغائن على حاله، في أي مناسبة يبرز العنف الكامن في النفوس، تتأجج هرمونات التخلف وتستعر داخل الاجساد التي لا تعرف سبيلا لرفع رأسها عاليا إلا عبر مزيد من الجثث، الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها الصعيد لا تجعل الصراع لا يهدأ حول أي شبر من الارض، يتكاثر البشر على رقعة غاية في الضيق، محاصرة بين النهر والجبل وخلفها تمتد صحراء تسكنها الضباع المسعورة، صراع الفقراء الذي لا يهدأ على الفتات ومع ذلك لا يعدمون من يمدهم بالسلاح.
لقد تباعدت المسافات بيني وبين هذا المستشار، ولكني استيقظت مفزوعا على أخبار معركة دامية من معارك الثأر في الصعيد، مقتلة هائلة ترصد فيها افراد أحدى العائلات بعائلة أخرى وابادوهم، استخدموا فيها أحدث البنادق وكمية هائلة من الرصاص، في قرى لا يتوفر فيها القوت لاهلها، واعترف أحد الذين تم القبض عليهم أن التحريض والتمويل جاء من ابناء العائلة الذين يعملون في الكويت، هكذا تم نشر الاسم في كل صحف الصباح، ولم اعرف أن كان الأمر يخص اسرة هذا المستشار أم غيرها، فجراثيم الحقد والضغينة منتشرة إلى حد مفزع، لكنهم استخدموا الأموال التي توفرت لهم لتحويل بعض الفلاحين الفقراء إلى ادوات للقتل، غذت مشاعر الاستعلاء والغرور والكرامة الزائفة وكل المشاعر البدائية المنحطة، وطغت على كل ما تعلموه، لم تستطع الشهادات ولا المناصب ولا الانتقال إلى بلد آخر أن تغير ما في نفوسهم خاصة وهم يستغلون الآخرين لتنفيذ مأربهم الشخصية وارضاء الجوع الهمجي في داخلهم ومازال طائر الصدى يعاني من العطش للدم.