بقلم: المطران ميلاد الجاويش
نادرًا ما نقرأ عن الزهد، حتّى إنّ الكلام عنه في هذا الزمن الجَشِع يبدو ضربًا من الجنون. غير أنّ الزهد لا يزال يُغري نفوسًا راقية.
النفس تتحلّى إن زهدت، تزهو إن عفّت عن لذّة أو تجرّدت عن شهوة أو تعالت على سلطة.
الزهد يفترض في النفس عزّة نفس، ترفّعًا، إباءً، والأبيّون في هذه الأيّام قليلون.
ما أزهى الزهد! يعظّمك، يرفعك، يكرمك، لمجرّد أنّك لم تضع نفسَك محور الدنيا، لا نفسك ولا احتياجاتك ولا مصالحك. تصبح عندها شفّافًا، ولشفافيّتك يرى فيك الناس قَبَسًا من انعكاسات الله، إنسانًا «على صورة الله ومثاله».
ما من بيت أو كنيسة أو وطن يُبنى بلا زهّاد، بلا أولئك الذين لا يحرّك جفنَهم إغراء.
وكم من أُمّةٍ خربت لأنّ الزهد غاب عن موائدها وأخلاقها، «وكلّ جزء يحسب نفسه فيها أُمّة» كما كتب ذات مرّة جبران خليل جبران.
الزهد باب رحب نحو المصالحة والسلام. إن زهدت فإنّك تُطمئن أخاك وتُفهمه أنّك لا تحتاج من الحياة إلّا ما يبقيك على قيد الكرامة، وأنّك لن تقتحم ما له لا عنوةً ولا خلسة.
القدّيسون زهدوا. جميعُهم. زهدوا فَخَفّوا، وطاروا وحلّقوا نحو ربّهم بلا أيّ غُلّ أو ثقل أو عبء أو أيّ «اهتمام دنيويّ».
المسيحيّون جميلون إن زهدوا، قبيحون جدًّا إن تناهشوا وتناتشوا. حذّرهم يومًا القدّيس بولس حين قال: «إِذا كنتم تَنهشُونَ وتأْكلونَ بعضُكم بعضًا، فانظروا لئَلاَّ تُفنُوا بعضُكم بعضًا» (غل 5: 5).
بعض مأساتنا اليوم سببها نَدرةُ الزهّاد وشيوعُ من يبغي أن يصل ولو على جثث الآخرين.
يا ليته يتذكّر مَن يدوس على كرامة الناس كي يصل أنّه لا بدّ من أن يكون هو نفسُه يومًا ما… جثّة!
إزهدوا، يا أحبّتي، وذوقوا ما أطيب أن يملأكم الحبّ، والحبّ وحده!