بقلم: محمد منسي قنديل
اسرائيل أكذوبة، ولكنها اقوى من أي حقيقة عربية، اقوى من الشواهد التاريخية والوثائق المكتوبة، لأنها ببساطة لا تأبه بها ولكن تلتف حولها وتنسج اكاذيبها الخاصة التي سرعان ما تخفي الحقيقة الأصلية، هكذا تفعل في قضية القدس وفي بقية القضايا الأخرى، بينما يراقبها العالم العربي في بلاهة عاجزا عن الرد والقيام بأي تصرف، كل ما يفعله هو مناشدة العالم ليقوم بالدفاع عنه وعن قضاياه، لكن العالم لا يرانا، صورتنا اصبحت شاحبة وتزداد شحوبا حتى اصبحت مهددة بالزوال، في القمة الاسلامية الأخيرة التي عقدت في تركيا بمناسبة اعتراف امريكا بالقدس كعاصمة رسمية لإسرائيل بدا الحكام العرب في حالة يرثى لها، حفنة من العجائز، مرضهم ليس في عقولهم ومستوى افكارهم فقط، فهذا امر قديم، ولكن في اجسادهم الواهنة، يتحركون بصعوبة ويفكرون في عجز ويتصرفون بأغرب الطرق، احدهم غائب عن الوعي معظم الوقت تاركا بلاده يحكمها اخوه مع حفنة من العسكريين المنتفعين، وآخر يستغل الفوارق المذهبية ويقوم بتأليب قسم من شعبه على القسم الثاني، وثالث يقصف جيرانه بأحدث المقاتلات الأمريكية ويرهن بترول بلاده من اجل هذا الغرض، ورابع يقصف شعبه بالبراميل المتفجرة، ولا تتوقف غرائب الحكام العرب عند حد، فهل يمكن أن نعتبر هؤلاء مؤهلين للحديث عن قضية سامية مثل القدس؟
في مقابل هذه الصورة الباهتة توجد اسرائيل بأكاذيبها المعتادة، قوية وواثقة، عندما كان نيتياهو يزور فرنسا وقف بجانب الرئيس مكارون متجاورين في مؤتمر صحفي، وأعرب مكارون أن من رأيه عدم الموافقة على الاعتراف الامريكي وأن هذا لا يخدم عملية السلام، ولم يبال الاسرائيلي بذلك ولكن قال في ثقة أنه هذه ليست قضية رأي، والامر لا يتطلب الموافقة أم عدم الموافقة لأن القدس عاصمة اسرائيل حقيقية لا تقبل الجدل، كانت القدس عاصمة اسرائيل وستبقى كذلك للأبد، هكذا يقول التاريخ، امريكا لم تفعل اكثر من أنها اعترفت بالأمر الواقع، وبالطبع سوف يسهل هذا عملية السلام لأنه يضع خطوطا واضحة للمفاوضات، كل هذه الأكاذيب يقوله في قوة أمام رئيس فرنسا، وأمام العالم كله، ببساطة يلوي نتنياهو عنق التاريخ، فلا يوجد لإسرائيل تاريخ مؤكد في القدس، ولا في بقية فلسطين، كل وقائعهم التاريخية قائمة على كتابهم المقدس، الكتاب الذين كتبوه بأيديهم اثناء الشتات أو الدياسبورا عندما كانوا على هامش التاريخ، فالتاريخ لا يصنعه المطاردون ولكنه يحتاج لأقوام مقيمة في مكان واحد تتراكم فيه الخبرات وتتوالى الاجيال، ولكنهم رغم ذلك صنعوا منها اكاذيبهم الكبرى.
بنفس قوة هذه الأكذوبة، وفي سنوات سابقة، اعلن رئيس وزراء اسرائيل السابق مناحم بيجن في وجه الرئيس المصري السادات بصفاقة أن اجداده من اليهود هم الذين قاموا ببناء الاهرامات، لم يرد السادات عليه في لحظتها، ربما لم يفهم مدى قوة الأكذوبة وقابليتها للانتشار، لم يدرك أن اسرائيل تسرق علنا جزءا من التاريخ المصري، تنسب لنفسها أهم موقع أثري في العالم، وتجرد مصر من آخر عجائب الدنيا السبع الباقية، براعة الأكذوبة أنها تستغل تداخل الحقب الزمنية وعدم وجود فواصل مؤكدة بين الوقائع المختلفة، رغم أن كل علماء الآثار يؤكدون أن بناء الاهرامات تم في عهد الدولة القديمة، قبل الف عام من قدوم اليهود إلى مصر اثناء الدولة الحديثة، هذا إذا كانوا قد جاؤوا اصلا، الكتاب المقدس نفسه لا يذكر شيئا عن مشاركة اليهود في بناء الاهرامات، كما انه لايوجد نقش واحد يدل على أن اليهود دخلوا إلى مصر قبل أن يدخلوا إلى سيناء عام 67، ذلك العام المنحوس، قبل ذلك لم يدخلوها أبدا، ولم يضعوا حجر على حجر، فقد كانوا مجرد رعاة يهشون على الغنم ويعيشون في اكواخ من سعف النخل، كيف لهم أن يتعلموا بناء شيء معقد كالأهرامات يستلزم قدرا من معرفة العلوم الهندسية، وماهي خبرتهم في قطع الاحجار وشظفها ونقلها ورصها، الخبرة كانت في معابد مصر، في اعمدتها السامقة، وتماثيل آلهتها، روث الغنم لا يقيم معبدا فما بالك بهرم سامق يقف عاتيا في وجه صنوف الدهر.
قوة الأكذوبة فرضت نفسها أيضا على التفكير الديني المسيحي، فالتأييد المطلق الذي كانت تتلقاه من البروتستانت الأمريكي منحها القوة لتؤثر على بقية الطوائف الأخرى، فالبروتستانت كانوا تاريخيا من اشد اعداء اليهود باعتبارهم قتلة المسيح، وكان على اسرائيل ان تدفع بأكذوبتها الكبرى بأنهم هم ليسوا قتلة المسيح ولكنهم كانوا وقتها تحت الحكم المطلق لروما لذا فالمسئولية تقع على عاتق الحاكم الروماني وليس على حاخامات اليهود، لكنها حجة تخالف كل الوقائع التاريخية وارغمت كنيسة الفاتيكان الكبرى على ابتلاعها ارضاء لضغوط اسرائيل ومن خلفهم يهود امريكا، نحن كمسلمين لا نؤمن أن اليهود قد قتلوا المسيح، فقد انجاه الله من عذابات عملية الصلب التي كان اليهود يدبرونها له، ولكن المؤكد أن اليهود كانوا يدبرون له جريمة لم تتم، فقد اوقعوا به عند الرومان، وقدموا الرشوة ليهوذا حتى يقوم بتسليمه ثم سلموه بدورهم للرومان، وغير معروف لنا كمسلمين كيفية نجاته من هذا الفخ المميت، ولكن في الفكر المسيحي تمضي الامور إلى نهايتها، فالحاكم الروماني بيلاطس يحقق معه ويكتشف أنه رجل صالح ولا توجد ضرورة لقتله، ولكن رد الحاخامات يأتي حاسما: دمه علينا وعلى ابنائنا من بعدنا، وحتى عندما تم رفعه للصليب كانت هناك فرصة اخيرة للاختيار، فقد كان على الصليب المجاور لص شهير هو “باراباس”، ويخير الحاكم اليهود للمرة الأخيرة بين العفو عن المسيح او العفو عن اللص فيختارون اللص الذي يتم انزاله بينما يبقى المسيح على الصليب حتى يلفظ انفاسه الأخيرة، يذكر الانجيل كل هذه الوقائع، ومع ذلك استطاع اليهود المعاصرين أن يتهربوا من مسئوليتهم عنها، وأن يظفروا من الفاتيكان بوثيقه تبرئهم من دم المسيح، رغم أنهم يرتكبون في فلسطين ماهو اسوأ من صلب المسيح، يقتلون العشرات من اطفال المسلمين والمسيحيين العرب كل يوم بدم بارد، لا يرفعون فقط شخصا واحدا على الصليب ولكنهم يقتلعون جذور شعب بأكمله، يبيدون قراهم ويحرقون اشجار زيتونهم التي يبلغ اعمارها مئات السنين حتى يبنون مستعمرات تضم كل الافاقين من اصقاع أوربا، جريمة قتل المسيح مازالت مستمرة لأنهم يقتلون ابناءه كل يوم.
لن تكون القدس العاصمة التاريخية لإسرائيل هي الكذبة الاخيرة، ولكنها ستفرض بالقوة كل عناصر تاريخها المزيف، وسوف تستغل سطوتها المدعومة بقوة امريكا لإقرار كل هذا الزيف التاريخي، ونحن مازلنا نقف صامتين، نهمل كل عناصر القوة الثقافية التي نملكها لمقاومة هذا الأمر، ربما تمكنت اسرائيل من هزيمتنا عسكريا ولكن هل يجب أن ندعها تهزمنا ثقافيا أيضا؟.