بقلم: المطران ميلاد الجاويش
شهر كانون يدغدغ القلب. ما أعزّ هذا الشهر على قلوبنا، خصوصًا نحن معشر المسيحيّين! هو الشهر الذي فيه تصطكّ أجسادنا بفعل البرد القارس، لكنّه أيضًا الشهر الذي فيه تستدفئ نفوسنا بعيد ميلاد السيّد المسيح، الذي نحتفل به في الخامس والعشرين من هذا الشهر.
ليس صدفةً أن يحوي اسم «كانون» بين طيّاته هذَين البُعدَين: البَرْد والكينونة. فكانون، لغةً، هو الموقد الذي نشعله لنستدفئ ونتّقي البرد. أمّا جذره فَـمِن «كان»، فعل الوجود بامتياز. في كانون، كان البرد وكان يسوع. في أكثر أشهر السنة بردًا أتانا يسوع ليُدفئ منّا القلب والروح. «تعالوا استدفئوا»، أخاله ينادينا من مذود مغارته. العالم بارد، الأنظمة باردة، المجتمع بارد، القلوب باردة، عائلاتنا باردة… ليتها تشتعل من نور هذا الشهر وناره!
قيل لنا، ونحن صغار، إنّ ثورًا وحمارًا أحاطا بيسوع الطفل كي يدفئاه بأنفاسهما ويخفّفا عنه برد المغارة. مع أنّ هذا التفسير صبيانيّ لا أساس له، لا في الكتاب المقدّس ولا في علم اللاّهوت، غير أنّه، مع بساطته، فيه لمسة من الحبّ والحنان. بهيمتان قدّمتا ليسوع المولود ما لم يستطع البشَرُ في بيت لحم أن يقدّموه: الدفء، كأنّ جسد يسوع يحتاج إلى الدفء، ولا تُدفئه إلاّ الأنفاس الطاهرة.
كانون شهرُ الحبّ في قاموسنا. حتّى في الغرب العلمانيّ جدًّا، ومن خلف واجهات المحلاّت المرتّبة وأنوار الشوارع الزاهية، يمكن أن نستشفّ الحبّ. الناس يلهثون وراء الضوء كي يخفوا عتمةً في داخلهم، ينغمسون في الصخب كي يهربوا من حاجتهم إلى السكون الداخليّ.
يميل المؤمن عادةً إلى انتقاد هذه الظواهر في كانون. يقول: «هذا ليس العيد»، «هؤلاء بعيدون عن روح العيد»، «هؤلاء لا يعرفون الميلاد ولا يدرون مغزى ولادة يسوع»، «هؤلاء، جُلّ همّهم الأكل والشرب والصخب»… صحيح، ولكن… الحبّ يكمن في هذه «لكن»…
أنت يا من يصلّي الميلاد وينعم بأنوار المولود، إيّاك والترف الروحيّ. يسوع يأتي إلى مَن لا يشبهونك، إلى مَن لا يشاركونك برجوازيّتكَ الروحيّة، إلى من تَميل فطريًّا إلى أن تنتقدَهم وتُناديهم «هُم»… مَن هُم «هُم»؟
هم الذين لا يعرفون من الميلاد سوى أن يزيّنوا مَحالّهم التجاريّة وبيوتَهم المُتخمةَ أكلاً وشربًا؛
هم الذين تميلُ فطريًّا إلى أن تنتقدَهم بأنّهم لا يعرفون ربَّهم إلّا وقتَ العيد؛
هم الذين يحصرون اهتمامهم في هديّة العيد علّها تُدخل فرحًا إلى قلوبهم؛
هم الذين لم ينعموا ربّما بما نعمتَ به، بأحدٍ يروي عطَشهم إلى كلمةٍ حيّة؛
هم الذين ينتقدون ويتململون ويخطأون في اليوم سبعين مرّة سبع مرّات؛
هم الذين تنتقدهم وأنت تصلّي صَدّاحًا ليلة الميلاد: «الشعبُ السالكُ في الظلمة أبصرَ نورًا عظيمًا»…
هؤلاء هم «الشعبُ السالك في الظلمة» الذين عليهم أشرقَ يسوعُ بنوره… الميلادُ لهم، كما لك. وبالأَولى لهم.
وأنت تصلّي الميلاد، دَع لميلاد يسوع أن يوسّعَ آفاقَ قلبك… وسعَ قلبِ يسوع.