بقلم: د. خالد التوزاني
من المؤسسات العربية الرائدة في الوطن العربي وخاصة في شمال إفريقيا، يأتي الاتحاد الدولي للمؤرخين للتنمية والثقافة والعلوم الاجتماعية، باعتبار مؤسسة علمية أكاديمية مدنية مهنية مستقلة تجمع المؤرخين على مستوى العالم بغض النظر عن الحدود والجغرافية والدينية والقومية والمذهبية، وتهتم بالدراسات الفكرية والتاريخية، وتجعل من المؤرخ مرتكزا للتفاعل والحوار الناضج والتشخيص والقراءة الدقيقة للتاريخ والواقع واستشراف المستقبل.
ويهدف الاتحاد الدولي للمؤرخين للتنمية والثقافة والعلوم الاجتماعية، إلى تحقيق التواصل والتفاعل بين المؤرخين على مستوى العالم، وتحقيق التعاون وتبادل الخبرات وبناء المشتركات التي تعزز السلم والأمن الدوليين، من خلال تنظيم جملة من الفعاليات الثقافية التي تروم الارتقاء بالمستوى الفكري والثقافي والاكاديمي للمؤرخ، والوصول إلى فكر تاريخي علمي أكاديمي تحليلي واقعي يتجاوز الصراع والخلاف ويدعو الى توسيع آفاق التعاون بعيداً عن منطق الصراع والقوة المهيمنة، وحفاظاً على وحدة الدول وثوابتها الوطنية.
ولهذه المؤسسة عدة شراكات واتفاقات تعاون مع عدد من المؤسسات العلمية داخل تونس وخارجها، ومن الفعاليات الثقافية التي نظمها الاتحاد مؤخّراً، يأتي مؤتمر الأندلس: مسارات التاريخ والحضارة.
على مدى ثلاثة أيام متتالية من 26 إلى 28 نونبر 2021، كانت تونس على موعد مع حدث ثقافي دولي، من تنظيم الاتحاد الدولي للمؤرخين للتنمية والثقافة والعلوم الاجتماعية، وبالتعاون مع عدد من المؤسسات والمراكز والجامعات، ومنها الجامعة الخضراء بتونس والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وجامعة سيدي محمد بن عبد الله بالمغرب والمعهد العربي للديموقراطية بتونس وكلية التربية جامعة سامراء بالعراق والمحكمة الدولية الدائمة للتحكيم ومنظمة الصداقة الدولية وجامعة صلاح الدين بأربيل وجامعة بيان بأربيل ومنظمة أصحاب الأعمال للتنمية ، والمركز المغربي للاستثمار الثقافي، مساق. علماً أن المؤتمر كان قد تم الإعلان عن تنظيمه خلال الفترة من 12 إلى15 أكتوبر 2021، بالحمامات بتونس، وبسبب الاحترازات الصحية ضد جائحة كورونا، تم تأجيل تنظيمه إلى 26 نونبر والجمع بين المشاركة الحضورية وعن بعد، استجابة لطلب بعض المشاركين الذين تعذر عليهم السفر بسبب الإجراءات الصحية في بلدانهم.
تمحور هذا المؤتمر الدولي حول موضوع: الأندلس … مسارات التاريخ و الحضارة، والذي عُقِد بتونس الحمامات، و بمشاركة واسعة من الباحثين والأساتذة والشعراء من عدد من الدول العربية، كالعراق والأردن ومصر والمغرب والجزائر وتونس وليبيا وسلطنة عمان والسودان ـوموريتانيا.
تم تقديم 49 ورقة بحثية، شارك فيها (59) باحثاً ضمن جلسات حضورية وأخرى عن بُعد، وبجلسة افتتاحية رئيسية: تضمنت كلمات الأساتذة :الدكتور سعيد البيضاني الأمين العام للاتحاد الدولي للمؤرخين، والدكتور خالد شوكات رئيس المعهد العربي للديموقراطية ، والدكتور زهير شمة الذي توفي بعد مشاركته في المؤتمر، كما قدم رئيس المحكمة الدولية الدائمة للتحكيم الأستاذ بشير سعيد كلمته ، أما كلمة الوفود المشاركة فقد ألقاها الأستاذ الدكتور عمارة فاضل حمزة ، وشهد حفل الافتتاح تكريم المؤرخ العربي الأستاذ الدكتور عبد الجليل التميمي ، بدرع الإبداع و التميز.
ثم عقدت جلسة علمية رئيسة برئاسة الدكتور طارق الحمداني، تدخل فيها كل من الأساتذة الدكتور عبد الجليل التميمي و الدكتور عبد اللطيف عبيد والدكتور زهير شمة ـ رحمه الله ـ والدكتور بشير سعيد، وأسدل ستارها بجلسة حوارية ختامية ترأسها الدكتور ابراهيم البيضاني، و تلي فيها البيان الختامي والتوصيات.
كانت مشاركة الباحثين متميّزة، والذين قدموا أوراقاً علمية ضمن مجالات اهتمامهم، وانسجاماً مع موضوع المؤتمر، ونستحضر في هذا المقال مشاركة المغاربة، على أمل أن تأتي الفرصة لاحقاً لمتابعة ملخصات مداخلات باقي المشاركين من الدول العربية الأخرى، ونشر نتائجها من أجل تعميم الفائدة، وهكذا، قدم المغاربة الذين شاركوا في مؤتمر الأندلس، أربع مداخلات، نستعرض بعض نتائجها من خلال الآتي:
المداخلة الأولى: للباحث و الشاعر الحسن أحمد جمالي عضو المكتب المسير المركز المغربي للاستثمار الثقافي ـ مساق ـ في موضوع: التأثير الأندلسي في أسوار فاس، ركز فيها الباحث على لون من ألوان التلاقح الثقافي ، والتفاعل الحضاري بين المغرب و الأندلس المتمثل في مجال المعمار ( أسوار فاس أنموذجا)، والذي انتقل فيه المعمار المغربي من البساطة في زخرفته و نقوشه إلى التعقيد المشرب بالجمالية و الإبداع ، نتيجة التأثير الأندلسي على العمارة الإسلامية المغربية ، و الذي خلق لنا شواهد معمارية لا زالت دالة على هذا التواصل و التفاعل ، مهد له الباحث بالنموذج الادريسي وما شهده من طفرة نوعية في مجال المعمار ممثلا في “ جامع القرويين “ وأسوار فاس المرتفعة التي تحيط بالمدينة من كل الجهات، وعطف على هذه الفترة الادريسية بفترات الحكم المرابطي و الموحدي و المريني ، وما شيد خلالها من أسوار وبروج اعتمادا على المهندسين و الصناع الأندلسيين حتى أصبحت فاس الجزء الآخر من قصة الحضارة الأندلسية ، كما أبرز دور المرأة و حضورها الوازن في تشكيل المعمار الإسلامي ، متخذا من السيدة فاطمة الفهرية التي كان لها الشرف في بناء معلمة جامع القرويين أنموذجا حيا على ذلك .
وجدير بالذكر أن الشاعر والأديب والباحث الحسن أحمد جمالي من أبناء مدينة فاس العريقة، و قد اشتغل في ترميم البناء العتيق مدة طويلة، بترميم خزانة جامعة القرويين، وله اهتمامات واسعة بأنماط المعمار والزخرفة وبديع الصناعات التقليدية المرتبطة بجماليات البناء التقليدي، مما جعله مُلمّاً بالموضوع وقادراً على الغوص في تفاصليه وخاصة ما له صلة بالجانب التطبيقي.
أما مداخلة الأستاذ الباحث الدكتور خالد سرسار والموسومة ب “جهود علماء الأندلس في حوار الأديان ـ الإمام ابن حزم الأندلسي نموذجا ـ” فقد تركّزت حول بيان أحد مظاهر الحضارة الأندلسية المتمثل في التعايش بين الديانات ، وتلاقح الثقافات الذي مهد لظهور الجدل الديني و الحوار الناري بين علماء المسلمين وأهل الكتاب استمر طوال الوجود الإسلامي الذي دام عشرة قرون، وقدم الباحث نماذج للأعلام الذين اشتهروا بنبوغهم في هذا العلم كأمثال ابن أبي عبيدة الخزرجي ( 450ه) وأبي الوليد الباجي (474 ه) وابن رشيق (696ه) وجعل من شخصية الإمام ابن حزم الأندلسي محور البحث ليبسط الكلام ويحرره في جهوده في حوار الأديان ، والتأسيس لعلم نقد الكتاب المقدس ، مستشهدا بنماذج من الواقع الأندلسي.
واتسمت المداخلة الثالثة للأستاذ الباحث مولاي عبد الحفيظ الإدريسي بالحديث عن جانب آخر له أمية خاصة ، وهو التأثير الحضاري الأندلسي على الغرب الإسلامي ضمن شقه الفني والجمالي، حيث عنون ورقته البحثية بــ “ فن الغناء و الموسيقى الأندلسية و أثرهما على صفة التحضر في الغرب الإسلامي” ، استهلها الباحث بمدخل مفاهيمي عرف فيه مفهوم الفن الموسيقي و الغنائي في الغرب الإسلامي، ثم عرج على ذكر مجالات وأنواع الفن الموسيقي والغنائي في الغرب الإسلامي، مشيرا إلى بعض أعلامه ، كزرياب، وابن ماجة، وختم مداخلته العلمية بالحديث عن أثر الفن الموسيقي و الغنائي الحضاري في الغرب الإسلامي، وانعكاس ذلك على المستويات الاجتماعية والسياسية والفكرية والأدبية والقيمية..
أما المداخلة الرابعة فكانت من تقديم الأستاذ الباحث عبد الحكيم سمراني في موضوع : “التواصل الثقافي والعلمي بين تادلا و بلاد الأندلس: امتداداته و تجلياته ، سلط فيها الضوء على الاشعاع العلمي والثقافي لمدينة تادلا التي تعد أهم أقاليم بلاد المغرب الأقصى وما عرفته من حالات ثقافية وعلمية بينها وبين بلاد الأندلس، جعل من تادلا حاضرة علمية شهيرة داخل المغرب وخارجه، ومنارة علمية متميزة أسهمت برجالاتها وعلمائها في الحياة العلمية و الثقافية في بلاد الأندلس، ومع ذلك لم تنل حظها من الدراسة والبحث كمثيلاتها من الحواضر المغربية الكبرى كفاس ومراكش ومكناس وغيرها، لذلك يوصي الباحث بوجوب تضافر الجهود وتراكم البحوث لمقاربة الموضوع وتعميق البحث فيه .
إن مشاركة الباحثين المغاربة في مؤتمر تونس، حول موضوع: الأندلس: مسارات التاريخ والحضارة، قد تميزت بالعمق والشمولية، وهي بذلك تمثل تفعيلاً حقيقياً للشراكة التي تجمع بين البلدين؛ تونس والمغرب، في مجالات اقتصادية واجتماعية وثقافية، وأيضاً سياسية، فالمغرب كان دائماً إلى جانب تونس في الدفاع عن وحدتها وسيادتها، كما أن تونس ترى في المغرب شريكاً في التعاون المغاربي وخاصة المغرب الكبير، أو اتحاد المغرب العربي، الذي يوحد دول شمال إفريقيا، ولذلك عادة ما تنجح المؤتمرات العلمية في تأكيد هذه الوحدة العربية المشتركة وفي إحياء قيم التضامن والتعاون والتآخي، حيث تمثل الثقافة دبلوماسية ناعمة تستطيع التأثير في مجالات التعاون المشترك بين الدول وتصحيح الكثير من المواقف، لأنه لا يمكن أن نحصر فعاليات مثل هذه المؤتمرات في الجلسات العلمية فقط، ولكن هناك أيضاً جلسات أخرى تتم بين المشاركين من مختلف الجنسيات والانتماءات، للتعارف والنقاش حول قضايا تهم بلدانهم، ولتبادل الأخبار والمؤلفات والأفكار، وهنا يؤدي الباحث المشارك دور السفير الذي يمثّل بلده خير تمثيل.