بقلم: د. خالد التوزاني
قبل جائحة كورونا، أعلن المركز المغربي للاستثمار الثقافي- مساق- والذي يوجد مقرّه في العاصمة العلمية بالمملكة المغربية، عن تنظيم المؤتمر الدولي: (البـلاغـة والتقنية ؛ السّجلات البلاغيّة الجديدة في عصر الميديا الاجتماعيّة)، بالتعاون مع مجلّة علوم الإعلام والاتصال، وهو المؤتمر الذي تم تأجيل انعقاده نظراً لظروف الحجر الصحي، تم خلال هذا الأسبوع إعلان استكتاب جديد يهم نشر أعمال المؤتمر، قبل تحديد موعد لانعقاده، خاصة وأن المشاركين في هذا المؤتمر من كبار الإعلاميين والكتاب الصحفيين والباحثين الأكاديميين من عدة دول، ومراعاة لإجراءات الوقاية والاحتراز التي ينبغي أن ترافق استئناف الأنشطة والفعاليات الثقافية وعودة الحياة الطبيعية، فقد قرّر المركز المغربي للاستثمار الثقافي، أن يكون الحضور في المؤتمر حسب رغبة المشاركين، كما فسح المجال لقبول تسجيل المداخلة بالفيديو، أو أيّ صيغة أخرى يقترحها الباحث، علماً أنَّ أعمال المؤتمر وشهادات الباحثين ومشاركاتهم العلمية، سيتم نشرها في كتاب المؤتمر، وتداولها بين الباحثين لتكون مرجعاً أساساً في البلاغة والتقنية: السّجلات البلاغيّة الجديدة في عصر الميديا الاجتماعيّة، كما منح المركز الاختيار للباحثين بين المشاركة في الكتاب فقط أو المؤتمر أيضاً، أو هما معاً أو حضور المؤتمر فقط دون بحث والاستفادة من الاستشارات مع الإعلاميين والأكاديميين المشاركين وإجراء حوارات معهم وتقديم أعمال جديدة لها صلة بالإعلام الجديد.
أما الأهداف العلمية للمؤتمر فتتجلى في ثلاثة مستويات؛ أولاً: تجذير التفكير في العلاقة بين علوم الإعلام والاتصال والحقول البلاغيّة واللسانيّة. وثانياً: تعميق الوعي بخطورة الأدوات البلاغيّة الجديدة في بناء الواقع وصناعة الرّأي. وثالثاً: دراسة فنون البيان والإقناع في الصناعة الإعلاميّة الجديدة.
وللوقوف على مجال تخصص المؤتمر وطبيعة موضوعه الجديد، كان قد نشر ورقة تأطيرية، ضمن إعلان الاستكتاب، والتي مضمونها كالآتي:
تُعدّ البلاغة من المباحث الفكريّة والأدبيّة والميديولوجيّة الكبرى التي شغلت النقّاد والأدباء والفلاسفة عبر العصور، وقد كان لها الأثر العميق في إثراء التراث الفكري، العربي بالخصوص، وازدهار أساليب الاتصال العمومي وفنون البيان والإقناع. فالبلاغة، كما هوّ معلوم، هيّ الميدان الذي يتقرّر في حدوده القصد الاتصالي، وتتحدّد فيه هندسة المعاني، ولا غرابة أن شكّلت على امتداد مراحلها حقلا معرفيّا تتداخله علوم وتخصّصات مختلفة، عملت جميعها على إرساء قواعد البيان، وتطوير فنون البديع والخطابة وفنون الاتصال الّلفظي وغير اللّفظي، وإنماء الدراسات النقديّة وتحليل الخطاب. والاهتمام بأنساقها ومشاربها مسألة ملحّة اليوم لاعتبارات عديدة أبرزها يتلخّص في التغيّر الحاصل للبنية الوسائطيّة في مجال الإعلام والاتصال، تغيّر لم يرافقه، في الفكري العربي، تراث علمي يدرس مكامن الأنساق البلاغيّة والأسلوبيّة لأدوات التواصل الحديثة ويجيب على الأسئلة التي تطرحها أنماط الكتابة الرّقمية الجديدة، على غرار ما حدث في أوروبا.
السعي، حينئذ، لمقاربة المشكل البلاغي من جديد بعد أن فقد هذا العلم بريقه، ينبع من إدراك ما حدث من تموّجات تقنيّة وفكريّة وثقافيّة في العالم، منذ ما يزيد عن ربع قرن، حين بدأ الحديث عن الإنسان الجديد، والإعلام الجديد، والفضاء العمومي الجديد، والذكاء الجماعي، والذكاء الاصطناعي والمجتمع الرّقمي، مبشّرا بعصر جديد تغيّرت فيه علاقة الإنسان بالإنسان وعلاقة الإنسان بالأشياء وبالمعرفة، وعلاقته بالمكان والزمان، وعلاقة الإنسان باللغة.
إنّه الحديث عن عالم جديد تبدّلت فيه هندسة العلاقات وتغيّرت أساليب العمل والإنتاج والتوزيع والتبادل للسّلع والأفكار والخدمات. عالمٌ تحوّلت فيه الأنشطة الرّمزيّة والماديّة من بيئتها التقليديّة المحدودة لتستقرّ في بيئة تمثّل فيها الأقمار الصناعيّة والألياف الضوئيّة والكوابل المحورية وكوابل الألياف البصريّة والخوادم الذكيّة وهوائيات الواي الفاي (Wi-Fi) وغيرها من تقنيات الاتصال المتطوّرة، البنية التحتيّة الأساسيّة لاستمراريّة التواصل والتشكّل الاجتماعي. فالاقتصاد العالمي والثقافة والسياسة ارتبطت مداراتها بالأنترنت، بلّ إنّ جلّ فصولها ظلّ يدور في الفضاء السيبرني محدثا نوعا من الانصهار بين الماديّ واللامادي، بين الواقعي والافتراضي.
إنَّ هذا التماهي بين الواقعي والافتراضي، وبين البلاغي والتقني، يصنع عالماً فريداً، ويقود إلى إعادة طرح أسئلة وجودية قديمة طرحت منذ آلاف السنين، من قبيل: ما الإنسان؟ ما الأخلاق؟ ما البلاغة؟ ما النص؟ ذلك بأنَّ كُلَّ قارئٍ ينظرُ إلى النّص/ التقنية، مِن زاويةِ اهتماماته الفكرية والسّيكولوجية والاجتماعية، وأيضاً انشغالاته الفلسفية والإبستمولوجية، وخاصةً في صِراعه مع المعرفة وطموحه لفهم كيفية اشتغال التكنولوجيا فائقة الذكاء وما وراء تطويرها بالكيفية السَّريعة التي نراها اليوم، مما يؤثر في نمط البلاغة التي يختارها.
والحاصل هوّ أنّ ملامسة الواقع الاجتماعي والتعامل مع مفرداته بات يمرّ عبر الأنترنت في هيئة سيبرنيّة خالصة، أفرزت تدفقا غزيرا لبلاغة جديدة وعناوين جديدة كالأمن السيبرني (cybersecurity)، والدفاع السيبرني (Cyber Defense)، والمقهى السيبرني (Cyber Coffee)، والتحرّش السيبرني (Cyber harassment)، واللقاء السيبرني (cyber meeting)، والجرائم السيبرنيّة (Cybercrimes)، والتبادل السيبرني (Cyber Trade)، والقائمة طويلة، مفتوحة، مهيّأة لاستيعاب كلّ نشاط يرتبط حدوثه بالإنترنت.
الكلام هنا هوّ أنّ النسخة الرّقميّة لعناصر التركيب الاجتماعي ونشاطه وتفاعلاته، المنبثّة في فلك الويب، يشتغل جميعها بالبلاغة، بلاغة النّص والصّوت والصّورة، بلاغة الحضور المسرحي والتلفزيوني للأفراد الاجتماعيين، بلاغة المواقع والمدوّنات ومنصّات التواصل الاجتماعي. بلاغة بات يرصدها الجميع وينتجها الجميع وسط حالة من التواقت المثير، المحدثة للاستقطاب. بلاغة ظلّت في أبعادها التكنوثقافيّة منتجة للشيء ونقيضه، للهيمنة وللديموقراطيّة، للسلم وللحرب، للنظام وللفوضى، للحبّ وللكراهيّة، للتوافق والاستبعاد. لقد بات إنتاج المعنى يحتاج إلى قراءة جديدة وتفسير جديد للصّورة الرّقميّة الواقعيّة والافتراضيّة، وللنصوص الفائقة، وللسجلاّت اللغويّة الجارية في مجرّة الميديا الاجتماعيّة، وللظهور الإعلامي وأنماط التسويق السياسي والثقافي والاقتصادي. فالبلاغة اليوم، وإن فقدت مركزيّتها كعلم قديم يهتمّ منهجيّا بفنون الإقناع والفعل، فإنّها تُستدعى اليوم للإجابة على أسئلة لغة العصر الحديثة، لغة الصفر والواحد، لغة الحركة والموسيقى، لغة التصميم الغرافيكي، لغةٌ خارج الجهاز اللغوي. واستدعاؤها إنّما يعني بناء بلاغة جديدة.
ونظراً لهذا الثراء المعرفي والتنوع في الرؤى والتخصصات، يقترح مؤتمر البلاغة والتقنية، أربعة محاور كبرى، تندرج تحت كل محور عدد من الموضوعات.
المحور الأول: الدرس البلاغي ودراسات الإعلام، وتحته موضوعات: المكوّنات البلاغيّة في نظريّة التواصل، والبلاغة والأسلوبيّة في الخطاب الإعلامي المعاصر، وتضخّم الأنساق البلاغيّة في الإعلام الجماهيري، وبلاغة النصوص العجائبية بين السرديات والتقنيات.
أما المحور الثاني فيقارب البلاغة الجديدة وآليات الخطاب الاجتماعي، وضمنه موضوعات فرعية، هي: فنون البيان والاقناع في الاتصال الاستراتيجي، والشكل والمضمون في الصناعة الإعلاميّة الحديثة، والمجاز في حملات التسويق السياسي والثقافي والاقتصادي.
في حين المحور الثالث حول الإعلام الإلكتروني وفن التلاعب بالصور والكلام، وتندرج تحته موضوعات مثل: صناعة الاستقطاب في الميديا الفرديّة الجماهيريّة، والبناء الاجتماعي للواقع بين الحقيقي والافتراضي، وفنون التأليف والتركيب في الدراما الإخباريّة.
أما المحور الأخير، فموضوعه الفضاء السيبرني والسّجلات اللغوية الجديدة، وتحته الموضوعات الجزئية الآتية: الامتداد الاجتماعي للبلاغة الرّقمية، والتضرّر اللغوي والتلوّث الثقافي، واللّغة السيبرنيّة والأخلاق التواصليّة.
ومن المرتقب أن يضم مؤتمر البـلاغـة والتقنية ؛ السّجلات البلاغيّة الجديدة في عصر الميديا الاجتماعيّة، جملة من المواد والأدوات، منها ورقات بحثية علمية، وحلقات نقاشيّة بين باحثين في مجال الإعلام والاتصال وبلاغيين لسانيين، وأيضاً تنظيم ورشات عمل، وكتاب أعمال المؤتمر التي تعدّ مصدراً لا يستغني عنه كل إعلامي أو باحث في البلاغة والتقنية، وخاصة السجلات الاجتماعية وعالم الميديا الاجتماعية وصناعة الرأي العام وتوجيه السياسات العامة والتأثير في الجمهور.
يخاطب المؤتمر كل الباحثين المهتمين بدراسات الإعلام والصحافة وتقنيات التأثير في الآخرين، كما يستهدف أيضاً سائر تخصصات العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة والاقتصادية والأدبية.. ويستفيد منه المهندسون والفنيون القائمون بالإنتاج الإعلامي والاتصالي. كما يستفيد الإعلاميون وقادة الرّأي في المنطقة العربيّة.
وجدير بالذكر أن استقبال بحوث المشاركة في أعمال المؤتمر الدولي: البـلاغـة والتقنية ؛ السّجلات البلاغيّة الجديدة في عصر الميديا الاجتماعيّة، متواصلة إلى بداية نونبر 2020. إلى بريد المركز الآتي:
touzani79@hotmail.com