بقلم: د. خالد التوزاني
تعد الرحلة المغربية «ماء الموائد» لأبي سالم العياشي (ت1090هـ) وثيقة لا تقدر بثمن في دراسة الحركة الفكرية والروحية بالمغرب وباقي أنحاء الوطن العربي، فهي من «أعظم رحلات أهل المغرب العلمية» ، حيث أقبلت عليها الأوساط العلمية في المغرب وخارجه، فتعددت نسخها الخطية داخل المغرب وخارجه ، إذ «لا تكاد تخلو خزانة عالم كبير منها» ، نظرا لاحتفائها بأجواء الحياة في مغرب القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين بل في كثير من البقاع الإسلامية إبان تلك الفترة، خاصة وأن الموسوعية التي اتصفت بها هذه الرحلة «جعلتها مصدرا موثوقا لأخبار وأحداث العصر على طول الخط الذي اتبعته الرحلة، بوصفها للبلاد والأحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية» ، وذلك بنظرة رحالة عالِم صوفي مدرك لرسالته في المجتمع، ومما يرفع من قيمة هذه الرحلة كونها تشتمل «زيادة على وصف البلدان التي مر بها الكاتب، على تراجم علماء مشهورين، وإشارات تاريخية، ومناظرات فقهية لا تخلو من طرافة» ، حيث «يظهر أسلوب جديد في البحث يحاول أن يتجاوز النطاق المغربي المحدود إلى ذلك الفضاء الواسع الذي يمتد إلى الشرق الأدنى، حيث تختلف المناهج الدراسية نوعاً ما عنها في المغرب، وحيث تتسم طرائق التصنيف ومواضيع التأليف بميزات من طراز جديد ، وبذلك دشنت هذه الرحلة للاختلاف والتميز، ومما يعزز من قيمتها أيضا كون صاحبها «لم يكن مجرد عالم قال في فنون النظم والتأليف ما استطاع، بل كان شخصية استوعبت واقع عصرها» ، وتفاعلت مع قضايا مجتمعها وأسهمت في ترسيخ الأمن الروحي للمغاربة.
مؤلف هذه الرحلة الفريدة أبو سالم العياشي، هو عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن يوسف بن موسى بن محمد بن يوسف بن عبد الله العياشي، نسبة لآل عياش أو آيت عياش. اشتهر بكنية أبي سالم، من أبرز شيوخ الزاوية العياشية ، كان يلقب بعفيف الدين، المالكي، المغربي الإدريسي. ولد لليلة بقيت من شهر شعبان سنة (1037هـ: 4 ماي 1628م) بآيت عياش بالقرب من قرية تازروفت – على بعض أودية أحد روافد واد زيز- التي كان انتقل إليها أجداده من قصر ولتدغير من فجيج.
تلقى أبو سالم العياشي تعليمه الأول على يد والده محمد بن أبي بكر (ت1067هـ) مؤسس زاوية آيت عياش التي تحولت فيما بعد إلى اسم زاوية حمزة بن أبي سالم عبد الله العياشي (ت1030هـ)، واشتهرت أيضا باسم الزاوية العياشية، وهي المكان الذي نمت فيه مدارك أبي سالم، قبل أن يرحل في طلب العلم إلى بلاد درعة حيث الزاوية الناصرية، ثم إلى فاس حيث جامعة القرويين، «ولم تتح له الظروف التي عرفها المغرب أواسط القرن الحادي عشر الهجري أن يرحل إلى الدلاء ولا إلى مراكش، فاستغنى عن زيارة الأولى بالعلاقات الودية والمراسلات العلمية والأدبية التي كانت بينه وبين بعض علماء الزاوية الدلائية كأبي علي الحسن بن مسعود اليوسي… كما لم يزر الثانية مكتفيا بصحبة أشهر علمائها أبي بكر بن يوسف السكتاني» ، وذلك أثناء رجوعه من الحج في رحلته الأولى سنة 1059هـ.
احتل أبو سالم العياشي مكانة مرموقة بين أبناء عصره، نظرا لما تميز به من افتتان بالتنقل والأسفار، وولع بطلب العلم حيثما كان، إذ لم يكن طالب دنيا وإنما طالب ذوق وعلم، مما أسهم في بلورة تجربته، وفي تنوع مشاهداته وانطباعاته ، فالرجل أخذ عن الأعلام الذين أدركهم بالمغرب، حتى بلغ مرتبة التمكين التي أهلته لخوض الرحلة الكبرى، لأن السفر عند القوم لا يكون إلا بعد بلوغ التمكين، كما نقل ذلك أبو سالم في رحلته: «إن السفر لا يورث للمبتدئ إلا التفرقة، فينبغي للطالب إذا وجد الشيخ أن يكون ملازما لخدمته، ولا يفارق صحبته إلا بعد التمكين» .
هكذا، رحل الرجل ثلاث مرات إلى البلاد المشرقية ليتتبع العلم في مظانه وعند أربابه ويرمي بسهم مصيب مع أصحابه، فلم يترك عالما إلا قصده وسمع منه، ولا متصوفا إلا زاره وتبرك بما عنده، فأفاد واستفاد، حتى اجتمع له من الأسانيد والروايات والإجازات ما لم يجتمع لغيره من معاصريه بدوا وحضرا ، و»اتسمت شخصيته باطلاعها الوافر على علوم الحقيقة والشريعة والأدب، فاهتمت في علوم الحقيقة بالطرق الصوفية والمرويات المسلسلة في إطار الأوراد والتبرك، واهتمت في علوم الشريعة بالعقائد والمعاملات في إطار المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية، واهتمت في الأدب بشعر المديح النبوي وبجوانب التعبير عن الذات والمناسبات وبعض الآراء النقدية» . وبذلك، شكَّل أبو سالم العياشي «ظاهرة علمية فريدة في عصره» ، أهلته للتفرغ للتدريس والتأليف سواء في بعض البلاد المشرقية مثل المدينة المنورة، أو في مراكز العلم المشهورة بالمغرب مثل فاس، وكذلك بزاويته في مسقط رأسه بآيت عياش.
توفي أبو سالم العياشي بعدوى الطاعون يوم الجمعة 18 ذي القعدة سنة (1090 هـ: 1679م). وشكّل رحيله خسارة كبيرة للتصوف في المغرب، ولعل ما تركه من آثار علمية نفيسة، تكون عزاء لفقدانه المفاجئ، فإلى جانب مؤلفاته الكثيرة ، ترك الرجل خزانة عامرة بالكتب، تضمنت نفائس المخطوطات وغرائب الآثار.
لعب أهل التربية والعرفان دورا مهما في إحياء الأمل في نفوس المغاربة عبر زرع بذور الأمن الروحي، من خلال الأدوار الروحية والاجتماعية والعلمية والجهادية التي قاموا بها، فأمام الظروف العصيبة التي عرفها المغرب خلال القرن الحادي عشر الهجري، قرر أبو سالم العياشي خوض الرحلة إلى الحج قصد المثول بين يدي النبي ﷺ بكرة وعشيا يستشفع به إلى الله في دفع الأسواء وإزالة الأدواء وإعادة الأمن لأهل بلده، وقد كانت الأهوال عظيمة، إذ يقول: «وأي نفع ودفع أعظم من المثول بين يدي النبي ﷺ بكرة وعشيا، في أوقات الشدائد التي كانت عليهم، والأهوال التي صارت لديهم، أستشفع به إلى الله في دفع الأسواء، وإزالة الأدواء» ، فعندما تشتد المحن يفر الإنسان لخالقه ويقطع العلائق ليتصل برب الخلائق، فيستشفع إلى الله بأكمل الخلق محمد ﷺ. فما هي تجليات الأمن الروحي في رحلة «ماء الموائد»؟
طمح الرحالة أبو سالم العياشي إلى الانتماء لكل الطرق الصوفية التي سادت زمانه، وتوثيق الروابط مع شيوخها، عن طريق «الانتماء السندي»، ولعل ذلك ما جعله يستوعب كل الطرق الصوفية الأربعين التي عرفت في زمانه، بل كان أول من أدخل الطريقة النقشبندية للمغرب، ليدعم الجانب الروحي والإيماني لصوفية بلده، حيث وضَّح قواعد هذه الطريقة وأصولها في رحلته، وذكر فيها من كلام السادات النقشبندية، ما رأى فيه كفاية في التشويق إلى سلوك طريقهم لمن وجد مرشدا أو صحبة، ومؤكدا أن هذه الطريقة لا تختلف في جوهرها عن الشاذلية، حيث يقول: «ومن تأمل رشحات النقشبندية وحكم الشاذلية لم يجد بينهما اختلافا إلا بعض الاصطلاحات الراجعة إلى الأعمال الظاهرة، وأما الأعمال القلبية والمنازلات العرفانية فلا فرق أصلا» . وذلك ما أسهم في تقوية الوازع الإيماني عند المغاربة وتثبيت الأمن الروحي.
يبدو أن اهتمام العياشي بالانتماء إلى كل الطرق الصوفية في المغرب والمشرق، قد حمل في طياته رسالة ضمنية مفادها عدم تفضيل طريقة صوفية على أخرى أو تمييز شيخ معين، حيث التركيز على الأصل المتمثل في الاعتصام بالكتاب والسنة، ولا يهم بعد ذلك اختلاف الاصطلاحات، فكل الطرق إلى الله تخدم الأمن الروحي، ومما يعزز هذا الفهم، كون الزاوية العياشية لم تكن تتبنى طريقة صوفية محددة مثل باقي الزوايا المعاصرة لها، وإنما كانت زاوية علم وخزانة كتب وحلقات درس ومذاكرة، فكانت علاقة الطلاب بالشيوخ علاقة علمية صرفة يجمعهم طلب العلم، وحب الدين والوطن، ونستدل بهذه الميزة على «مرونة المدرسة المغربية وانفتاح أبنائها على مختلف الثقافات» حمايةً للأمن الروحي وتعزيزا له؛ حيث إمكانية الأخذ من الآخر وإفادته ونفعه، في سياق التبادل الإنساني «الروحي» بكل تجلياته وأبعاده، فلا توجد عصبية أو قبلية ولا تقوقع في طريقة معينة، لأن الغاية الكبرى هي توحيد الله عز وجل وتحقيق الأمن والطمأنينة بذكر الله، كما قال تعالى: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ .
ومما يدل على إسهام الرحالة العياشي في ترسيخ الأمن الروحي للمغاربة كذلك، أنه لم يؤسس لنفسه طريقة خاصة به وبمريديه، على الرغم من قدرته على ذلك، وكأنه يريد أن يؤكد أن الحفاظ على الوحدة الروحية للمغاربة مقدم على كل عمل؛ حيث ضرورة الاعتصام بالكتاب والسنة ولا ضرر بعد ذلك من الاستفادة من كل الطرق الصوفية مادامت تستمد حياتها من أصل واحد، هو الوحي الإلهي المتمثل في القرآن والسنة، وبذلك شكّل الأمن الروحي أولوية الأوليات في منهج شيوخ الزوايا في المغرب، كما ظهر ذلك جليا في الرحلة الفريدة «ماء الموائد».