بقلم / مسعود معلوف
سفير متقاعد
رداً على ما قام به حزب الله بعد السابع من أوكتوبر 2023 دعماً لحماس بما أسماه “حرب الإسناد”، شنت إسرائيل هجمات بصورة شبه يومية على مختلف المناطق اللبنانية، مدمرة قرى وبلدات عديدة في الجنوب اللبناني، ومنفذة اعتداءات متكررة على معظم المناطق اللبنانية، بما فيها العاصمة بيروت، حيث دمرت العديد من المباني وقتلت أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله وعددا غير قليل من قادة الحزب.
وبالرغم من التوصل الى اتفاق لوقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل برعاية الأمم المتحدة ومشاركة أميركية وفرنسية في السابع والعشرين من شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2024، استمر جيش العدو الإسرائيلي بشن هجمات متكررة على شتى المناطق اللبنانية، خارقاً وقف إطلاق النار أكثر من ثلاثة آلاف مرة منذ ذلك التاريخ وفق لجنة مراقبة هذا الإتفاق، وهي لجنة مؤلفة من لبنان وإسرائيل والأمم المتحدة والولايات المتحدة وفرنسا، ويرأس هذه اللجنة ضابط أميركي.
ومع ان إسرائيل وافقت ووقعت على اتفاق وقف إطلاق النار الذي يقضي بانسحاب الجيش الإسرائيلي بالكامل من لبنان وتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 1701، فهي ما زالت تحتل خمسة مواقع في الجنوب اللبناني وتخرق هذا الإتفاق بصورة مستمرة.
تدعي إسرائيل، المدعومة بصورة تامة من الولايات المتحدة الأميركية، أن لبنان لم يطبق القرار 1701 كما يجب، وهي تنطلق من هذا الإدعاء لشن غاراتها على الأراضي اللبنانية زاعمة بعد كل غارة انها تقصف مخازن أسلحة تعود لحزب الله أو تستهدف مقاتلين تابعين للحزب.
لا بد من التوضيح أن حزب الله وافق على وقف إطلاق النار وقد فاوض نيابة عنه رئيس المجلس النيابي اللبناني الأستاذ نبيه بري. ولكن بعد توقيع الإتفاق، برزت نقاط خلاف إذ أن إسرائيل تعتبر أن القرار رقم 1701 ينبغي تطبيقه على كامل الأراضي اللبنانية، بينما حزب الله يصر على أن هذا القرار ينبغي أن يطبق فقط على الأراضي الواقعة جنوب نهر الليطاني.
من المفيد تحليل الأسباب التي تدعو اسرائيل الى الإستمرار في عملياتها العسكرية في لبنان رغم توقيعها على اتفاق وقف إطلاق النار.
السبب الأول والأهم هو أن نتنياهو لا يريد وقف الحرب لأن له مصلحة شخصية في استمرارها، وخير دليل على ذلك هو العقبات التي يضعها باستمرار في مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة حيث يتظاهر في كل مرة أنه يوافق على المقترح الأميركي أو القطري، ثم يضيف عليه شروطاً تعجيزية لا يمكن لحماس القبول بها ومن ثم يتهم حماس برفض مشروع اتفاق وقف إطلاق النار.
مصلحة نتنياهو الشخصية في استمرار الحرب تكمن في التحقيقات القضائية الجارية بحقه في تهم فساد واحتمال دخوله السجن في حال انتهاء مهمته كرئيس للوزراء، ولذلك فهو يود أن تستمر الحرب مدعيا أنه يدافع عن الإسرائيليين على عدة جبهات، وبينها طبعا الجبهة اللبنانية. وهذا ما يفسر توسيعه رقعة الحرب في لبنان وغزة وسوريا واليمن وصولاً الى مساعيه استدراج الإدارة الأميركية لحرب مع إيران ورفضه الواضح والقوي للمفاوضات الأميركية-الإيرانية حول ملف إيران النووي.
يحاول نتنياهو، من خلال هذه المواقف، حرف أنظار المجتمع الإسرائيلي عن مشكلاته القضائية عبر استمرار قيامه بحروب على هذه الجبهات، ومركزا على ما يسميه المخاطر التي يتعرض لها الإسرائيليون في حال توقف الحرب وقبول وقف إطلاق النار، مدعيا أنه يود حماية الإسرائيليين من احتمال وقوع أعمال إرهابية على غرار ما جرى في السابع من أوكتوبر 2023.
لقد أصبح الأمر واضحا لدى أعداد متزايدة في المجتمع الإسرائيلي وخاصة لدى عائلات وأنسباء وأصدقاء الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لدى حركة حماس، بأن نتنياهو يود الإستمرار بالحرب لمصلحته الشخصية وغير مهتم بمصير الرهائن، وهم لا يترددون في إعلان ذلك بوضوح تام. وقد ذكرت صحيفة معاريف الإسرائيلية بأن وزير الدفاع الإسرائيلي السابق يواف غالانت في حكومة نتنياهو، صرح بأن “حكومة إسرائيل هي عصابة إجرام برئاسة نتنياهو”! هذا مع العلم أن يواف غالانت قد سبق وصدر بحقه قرار توقيف، مع قرار توقيف نتنياهو من قبل المحكمة الجنائية الدولية، عندما كان وزيرا للدفاع في الحكومة الإسرائيلية.
وفيما يتعلق باستمرار الحرب في لبنان، فإن نتنياهو يسعى، حسب ما أعلنه بنفسه، الى القضاء على حزب الله بصورة تامة كي لا يعود هذا الحزب يشكل تهديدا للإسرائيليين المتواجدين في الشمال الإسرائيلي، ولذلك نراه يقوم بتدمير ممنهج للبنى التحتية والمنازل وسائر الأبنية في معظم القرى الجنوبية على غرار ما يفعله في قطاع غزة، وذلك بالرغم من قرار وقف إطلاق النار الصادر منذ أكثر من ستة أشهر.
هنالك أيضا غايات غير معلنة عند نتنياهو وراء استمراره في الحرب المدمرة على لبنان، وهو اعتقاده بأن لبنان سيخضع ويستسلم أمام الضغوط الإسرائيلية وربما سيوافق على الإقتراح الأميركي بالإنضمام الى اتفاقات ابراهيم وتطبيع علاقاته مع إسرائيل، أو ربما يود نتنياهو ممارسة ضغوط قوية على الحكومة اللبنانية، بدعم وتأييد تام من إدارة الرئيس ترامب، من أجل تجريد حزب الله من سلاحه حتى ولو أدى ذلك الى حرب أهلية في لبنان. وفي حال تحقيق أي من هذه الأهداف الثلاثة، بالرغم من صعوبة حصول ذلك ان لم يكن استحالته، فإن نتنياهو يستطيع عندئذ إقناع الإسرائيليين بأنه حقق انتصارا كبيرا لهم ما قد يؤدي، حسب حساباته، الى العفو عن ارتكاباته السابقة وانتهاء مشكلاته القضائية. يضاف الى كل ذلك أخبار حديثة سمعناها حول توافق أميركي إسرائيلي على إنهاء مهمة قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان المعروفة باسم “يونيفيل”، وهذا أمر يُنذر باحتمال عزم إسرائيل على تعميق وتوسيع هجماتها على لبنان، علما أن مجلس الأمن سيناقش التمديد لهذه القوة في آخر شهر تموز/يوليو القادم.
الحكومة اللبنانية أصبحت في وضع حرج جدا لقاء ما يفعله نتنياهو في لبنان، ويبدو أنها أبلغت اللجنة الخماسية المسؤولة عن تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار انها قد تتوقف عن التعاون مع هذه اللجنة في حال عدم منعها اسرائيل من القيام بما تقوم به من أعمال تدميرية في لبنان. هذا مع العلم أن فرنسا طلبت من إسرائيل بوضوح تام الإنسحاب من النقاط الخمس التي ما زالت تحتلها في الجنوب اللبناني خلافا لمنطوق اتفاق وقف إطلاق النار، ولكن فرنسا لم تتخذ أي إجراء عملي ضد أسرائيل بعد عدم تجاوب هذه الأخيرة مع المطلب الفرنسي.
مع أن معظم الدول التي تخالف إسرائيل الرأي في حربها ضد قطاع غزة لم تتخذ موقفاً واضحاً حيال حرب إسرائيل ضد لبنان، إلا أن المواقف المناهضة لنتنياهو في الداخل الإسرائيلي ولدى بعض الفئات في الولايات المتحدة بما فيها في الكونغرس بسبب الحرب الإسرائيلية الوحشية على قطاع غزة وقتل وتجويع الشعب الفلسطيني في القطاع، من شأنها، في حال تمكنها من زيادة ضغوطها، أن تؤدي الى الإطاحة بنتنياهو ووضع حد لحروبه العبثية المدمرة في منطقتنا.
في هذا الإطار، يجدر ذكر ما يقوم به عضو مجلس الشيوخ الأميركي بيرني ساندرز، وهو يهودي، من نشاط داخل الكونغرس وخارجه، متهما نتنياهو بالإبادة الجماعية ومعتبرا إياه مجرم حرب، ومطالبا بوقف جميع المساعدات العسكرية لإسرائيل. وكذلك عضو مجلس الشيوخ كريس فان هولن وغيرهما.
لقاء الضغوط الإسرائيلية والأميركية على لبنان، يبقى الموقف اللبناني واضحاً وموحداً وصامداً، سواء لجهة حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية وحدها وفق ما ورد في البيان الحكومي الذي أيده وزراء حزب الله الذين هم أعضاء في الحكومة، او لجهة تأكيد تمسك لبنان بقرار مؤتمر القمة العربية التي انعقدت في بيروت عام 2002 لجهة عدم إقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل قبل إقامة الدولة الفلسطينية.
هل ستقوى وتتوسع المواقف المناهضة لنتنياهو في إسرائيل والولايات المتحدة وهل ستتمكن من إسقاط حكومته، أم انه سيستمر في نشاطانه التدميرية في المنطقة حفاظاً على مصالحه الشخصية؟ قد نرى الجواب في الأسابيع والأشهر القليلة القادمة.