بقلم: د. حسين عبد البصير
مدير متحف الآثار والمشرف على مركز
د. زاهي حواس للمصريات-مكتبة الإسكندرية
الملكة نفري تا تشنن
ندخل الآن إلى الفترة الثانية من الفترات الذهبية من عصور مصر القديمة، وهي فترة عصر الدولة الوسطى، والتي عادت فيها مصر إلى سابق عهدها من الوحدة والاستقرار والمجد. وفي عصر الدولة الوسطى، ازدهر الأدب واللغة المصرية في العصر الكلاسيكي، وتم الاهتمام بالزراعة ومشروعات الري، وزادت رقعة مصر الزراعية. وقام ملوكها ببناء الأهرامات مرة أخرى في مناطق عدة مثل دهشور وهوارة واللِشت واللاهون.
وفي عصر الدولة الوسطى، برزت عدة ملكات وأميرات إلى المجد والقمة. ومن بين هذه الملكات، الملكة نفري تا تشنن بمعني «جميلة هي الأرض الناهضة». وعلى ما في هذا الاسم من دلالات دينية، فإنه قد يشير إلى أرض مصر التي نهضت بعد فترة طويلة من الاضمحلال بعد أفول نجم الدولة القديمة. ها هي مصر العظيمة تنهض من جديد وبمنتهي القوة.
وقام الوزير أمنمحات، الملك أمنمحات الأول، ملك مصر العليا والسفلى، أول ملوك عصر الثانية عشرة لاحقًا – بنقل العاصمة من طيبة (الأقصر الحالية) إلى الشمال حيث يمكنه حكم مصر بسهولة لتوسطها أرض مصر وسهولة الوصول إليها والتحرك منها إلى معظم مصر. وأسّس هذا الملك عاصمة جديدة، «إيثت تاوي»، بمعنى «القابضة على الأرض». وهذه العاصمة مفقودة الآن، غير أنه من المرجح أنها كانت قريبة من منطقة اللِشت الحالية. واتخذ أمنمحات الأول من أهرام الدولة القديمة نموذجًا لمقبرته في اللِشت. فقام ببنائها على شكل هرم مما جعلنا ندرج الدولة الوسطى ضمن بناة الأهرام. وترك أمنمحات الأول الأسلوب المعماري الذي كان متبعًا في طيبة حيث كان الملوك السابقون عليه يقومون ببناء مقابر منحوتة في الصخر الطبيعي في البر الغربي للأقصر.
وبنى أمنمحات الأول حول هرمه حوالي 22 بئرًا. وخصصها للنساء الأكثر أهمية في العائلة. وكان من بينها، مقبرة زوجته نفري تا تشنن. وكانت أم ابنه وولي عهده وشريكه وخليفته في حكم مصر الأمير سنوسرت (الملك سنوسرت الأول بعد ذلك صاحب مسلة المطرية). وحملت لقب «أم الملك». وذكرها ابنها سنوسرت الأول على أحد تماثيله الصغيرة. ولا نعلم كثيرًا عن ميلادها وزواجها وموتها غير أنها عاشت في القرن العشرين قبل الميلاد، أي منذ حوالي 4000 عام.
وبعد ما يقرب من ثلاثين عامًا على عرش مصر، تم اغتيال الملك أمنمحات الأول، أغلب الظن. وعلى عكس كل ضحايا الاغتيالات السياسية، تمكن أمنمحات الأول من كتابة خطاب إلى ابنه الأمير سنوسرت. وفيه، حكى الملك بالتفصيل الأحداث المرعبة التي تعرض لها في ختام حياته والتي أدت إلى موته. وكانت صدمة أمنمحات الأول كبيرة. فكيف يتم اغتياله في فراشه وفي قصر وبين حراسه الذين من المفترض أن يكونوا هم المحافظون على حياته؟! وربما جاءت محاولة اغتياله من حريمه الملكي لخلاف على خليفته في حكم البلاد. وربما نجحت المؤامرة وتم قتله، لكنها فشلت في تغيير خليفته سنوسرت. ونصح ولده سنوسرت بألا يثق في أي أحد وألا يتخد صديقًا. وكان الأمير سنوسرت في حملة خارج البلاد كما جاء في قصة سنوهي. وهذا المصدر الأدبي من الأعمال القليلة التي تظهر الطبيعة البشرية للملك المصري القديم. وكانت هذه من الحالات القليلة التي أظهرت الملك في لحظة ضعف. وليس لدينا دليل رسمي على اغتيال هذا الملك. وتم نقل الأحداث لنا من وجهة نظر الملك وفي تلك الظروف العصيبة التي يمكن أن يتعرض لها أي إنسان وليس ملكًا عظيمًا كأمنمحات الأول، أحد بناة مصر العظام، والذي أعاد لمصر مجدها التليد وعظمتها الماضية. وأضفت رواية الأحداث على لسان الملك أبعادًا درامية وإنسانية على ذلك النص الأدبي المعروف بين عيون الأدب المصري القديم بـ»تعاليم الملك أمنمحات الأول».
وتعد نفري تا تشنن ملكة مكلومة تعرض زوجها للاغتيال، فتناست جراحها وعظم مأساتها وفقدها زوجها الملك القوي والأثير إلى قلبها، ووقفت إلى جوارها ابنها الأمير سنوسرت، تقوي من عضده في تلك الظروف الحزينة التي كانت تمر بها مصر إلى أن تمكن الملك الشاب سنوسرت الأول من إدارة البلاد باقتدار لا يقل عظمة عن والده الراحل، فكان خير خلف لخير سلف. وكان ذلك بسبب ملكة مصرية عظيمة وأم فاضلة هي الملكة الجليلة نفري تا تشنن.
الملكة سوبك نفرو
يبقي للمرأة المصرية السبق والإبداع والتميز في مجالات عدة. وكان حكم البلاد بانفراد من بينها. وكان إسهامها في ذلك لا يقل عن إسهام نصفها الآخر الرجل المصري القديم. ولولا المرأة المصرية القديمة، ما قامت الحضارة المصرية القديمة؛ فالمرأة المصرية هي رمانة الميزان ومركز الدفع والتحفيز على العمل والإبداع وشحذ الهمم والطاقات لدى رجال مصر العظام. وفي هذا ما يوضح سبق مصر الحضاري على غيرها من الحضارات من خلال عظمة المرأة المصرية التي لولاها ما كانت مصر.
وتعتبر الملكة سوبك نفرو (أو «نفرو سوبك» لدى علماء المصريات الأوائل) واحدة من أهم ملكات مصر القديمة. وكان وجودها مؤثرًا ودورها محوريًا وقصة حياتها وأعمالها خالدة على وجه الزمن.
ويعني اسمها «جمال سوبك». وعرف اسمها في المصادر الكلاسكية، مثل كتابات مانيتون السمنودي، باسم «سكميوفيرس».
وكانت الأسرة الثانية عشرة تؤمن غالبًا بأحقية ومشروعية المرأة في حكم البلاد. فنرى الملك أمنمحات الثالث يفضل ابنته الكبرى الأميرة «بتاح نفرو» (أو نفرو بتاح) لخلافته على العرش. غير أنه تأتي عادة الرياح بما لا تشتهي السفن؛ فتموت تلك الأميرة في سن مبكرة. ثم يذهب الحكم إلى الملك أمنمحات الرابع. ويتوفى أمنمحات الرابع بعد فترة حكم قصيرة دون ولي عهد ذكر. وربما كان هذا الملك هو الأخ غير الشقيق أو زوج سوبك نفرو. وبعده حكمت الملكة سوبك نفرو، ابنة الملك أمنمحات الثالث، أربع سنوات. وأصبحت غالبًا سوبك نفرو أول ملكة تحكم منفردة. وأطلقت عليها المصادر المصرية القديمة لقب «ملك» (نسو) في صيغته الذكورية، متغاضية عن كونها ملكة، و»ابنة الملك»، وليس «أخت الملك»، مما يوضح ميلها للارتباط بأبيها.
واتخذت الملكة خليطًا من الألقاب الذكورية والأنثوية التي تعبر فيها عن طبيعتها. فنراها تأخذ اسم العرش «سوبك كارع»، والاسم الحوري، «ميريت رع» (محبوبة رع)، الذي يربطها بالإله حورس الممثل الأبدي للملكية المصرية المقدسة.
وتم اكتشاف عدد قليل من آثارها. وكان من بينها ثلاثة من التماثيل النصفية المفقودة الرأس، أهمها في متحف اللوفر في باريس، مما قد يشير إلى تعرض تماثيلها، وربما آثارها، للاعتداء. ولا ندري السبب وراء تدمير آثارها. وتظهرها تماثيلها المكسورة بملامح وملابس أنثوية، أغلب الظن، وفي أوضاع الملوك؛ فنراها تطأ بقدميها أعداء مصر التقليديين، مقلدة ملوك مصر، منذ الملك حورعحا (مينا)، في المظهر والزي والفعل كي يتم قبولها في أعين الشعب ولدى الآلهة. واستخدمت أيضًا الألقاب النسائية. ومن خلال زيها، حاولت التعبير عن ذاتها كي تتحول من ملكة إلى ملك في أعين الجميع، وحتى تظهر بالشكل المثالي الذي يجب أن تُصور به، ليس كملكة حية بل، كملكة في العالم الآخر.
واهتمت الملكة بهرم أبيها أمنمحات الثالث ومجموعته الجنائزية الخاصة في منطقة هوارة في الفيوم، وقامت بالعديد من الإضافات لها، والتي أطلق عليها هيرودوت «اللابيرنث» (التيه)؛ نظرًا لكبر المبنى وتعدد حجراته وممراته والتيه لمن يدخله. وارتبطت أعمالها الأثرية والمعمارية بوالدها. وكشف عن بعض القطع الأثرية التي تحمل اسمها بالقرب من هرم أبيها. وربما قامت بتأليه أبيها كإله منطقة الفيوم كي تعطي لنفسها الشرعية والمصداقية لحكم البلاد باعتبارها ابنة الإله. وكانت لها أنشطتها في منطقة النوبة في قلعة قمنة حيث تم تسجيل ارتفاع فيضان نهر النيل في العالم الثالث من حكمها. وفي هذا ما يدل على أن هذه الملكة حكمت أرضها مصر شمالاً وجنوبًا إلى النوبة، وأنها كانت مسيطرة على أملاك الإمبراطورية المصرية في الداخل والخارج، وأنها نجحت في ذلك مثل أسلافها من الملوك حكام الأسرة الثانية عشرة.
ولا يُعرف مكان مقبرتها بشكل مؤكد، إلى الآن، غير أنه يُعتقد أنها ربما قد تكون دُفنت في هرم مزغونة الشمالي في الجيزة، على الرغم من أن هذا الهرم يخلو من أية كتابات قد تعرفنا بهوية صاحبه. وإلى الشمال من مجموعة شبيهة ترجع إلى أمنمحات الرابع، يوجد مكان يعرف باسم «سخم نفرو»، ربما كان هذا هو المكان الذي كان به هرم سوبك نفرو.
وماتت سوبك نفرو دون أن تترك وريثًا. وتعد نهايتها غامضة، غير أنه ليس هناك ما يشير إلى أنها ماتت ميتة غير طبيعية. وانتهت بنهايتها الأسرة الثانية عشرة ومجد عصر الدولة الوسطى التي استمرت قليلاً بعد ذلك، لكن في قمة الضعف، قبل أن تنحدر مصر في ظلمات عصر الانتقال الثاني والاحتلال الهكسوسي البغيض لأرض مصر الطيبة.
البقية العدد القادم