بقلم : شريف رفعت
يوم عمل عادي، يقف في الورشة وسط العمال و الآلات منهمك تماما في عمله، هناك رضا نفسي بل سعادة غامرة تحتويه، قد تكون مستترة لكنها موجودة بقوة غلابة، سعادته بوظيفته كمهندس رئيس للورشة، الورشة بالنسبة له هي حياته، قوته، مرفأه و إدمانه. يتعامل مع المشاكل بمهارة و يتأكد أن الإنتاج يسير كما يجب. منذ تخرجه من الجامعة إلتحق بهذه الورشة في هذه الشركة و خلال عشرة سنوات أصبح رئيسا للورشة و يعمل له عدة مهندسين و عشرات العمال. علاقته بالعمال و بملاحظين الورشة يشوبها التقدير و الاحترام المتبادل، هو بالنسبة لهم المسئول الأول و حلقة الوصل بينهم و بين إدارة الشركة.
عندما إطمأن أن العمل يسير كما يجب في الورشة، توجه إلى مكاتب الإدارة حيث هناك إجتماع لمديري الشركة و رؤساء الورش. رئيسه المباشر مدير الإنتاج و باقي المهندسين و المديرين يعرفون قدره، هناك صداقة عمل جميلة تربطه بهم.
بعد إنتهاء يوم العمل إستقل مع ثلاثة من المديرين عربة الشركة التي تحملهم لمنازلهم، في الطريق كما يفعل كل يوم تبادل معهم الحديث، أولا عن ظروف و أخبار الشركة ثم تطرق الحديث إلى مواضيع عامة سياسية و رياضية و إجتماعية، يتكلم معهم بطلاقة ، يبحر من موضوع لآخر، أراءه دائما صائبة و مقنعة، رغم صغر سنه بالنسبة لهم إلا أنه من يقود النقاش بتلقائية و كياسة و يجعل المشوار محتمل بل ممتع.
يصل للمنزل، يغير ملابسه و يغسل يديه و يجلس على مأدبة الغذاء مع أمه و أبيه، الأب هاديء صامت أغلب الوقت، الأم كلامها في مواضيع لا تهمه، لكنه ينصت إليها باهتمام مصطنع و يناقش المواضيع معها كما لو كانت مواضيع تهمه، الأب يراقبهما من غير إهتمام. ينتهي من تناول الطعام، يشكر الأم على جودة طبيخها ويطبع قبلة على خدها، يظهر الرضا على وجهها، ترفع يديها داعية له:
ـ ربنا ينصرك و يوفقك و يهديك لبنت الحلال إللي تسعدك.
“بنت الحلال إللي تسعدك” تمر بخاطره ذكراها رغم أنه لم ينساها أبدا. رقتها، جمالها الهاديء، صوتها العذب و شخصيتها الوديعة. كي ينتشل نفسه من موجة الشجن التي إحتوته تماما يخاطب أمه بصوت عال مهذار:
ـ تعرفي أنا مشكلتي إيه؟ إني بأدور على واحدة زيك، جمالك عقلك طيبتك طبيخك، إنما مش لاقي، واضح إن ربنا بعد ما خلقك كسر القالب، عشان كده مش لاقي واحدة زيك.
تجيبه أمه:
ـ ربنا يجبر بخاطرك زي ما بتجبر بخاطري، إن شاء الله تلاقي أحسن مني.
يرد:
ـ باقول لك مافيش واحدة زيك يبقى إزاي ألاقي أحسن منك.
يلمح بطرف عينه أباه يبتسم إبتسامة رزينة حزينة مجاملة من موقف تكرر من قبل عدة مرات.
و أمه مستمرة في دعائها له ينصرف، يدخل حجرته، يغلق الباب، يستلقي على فراشه، يحملق في سقف الحجرة و يجهش في البكاء.