بقلم: المطران ميلاد الجاويش
نمارس إيماننا وقلبُنا يلهف وراء الحكمة. نرتاد الكنيسة، نسمع كلمة الله، نصلّي، نتخشّع، نأكل جسد الربّ ونشرب دمه… وغايتنا من كلّ هذا «أن ننفذ إلى قلب الحكمة» (مز 90: 12)، أن نصيب قسطًا أوفر من الحكمة والنضوج والجمال. إذا اجتهدنا وذهبنا إلى الكنيسة في هذا الدهر الخدّاع فهو لكي نكون أحكم وأنضج وأحلى. هناك نموّ في الإنسانيّة الحقّة، وحتّى في المواطنة الحقّة، لا يتمّ إلّا إذا مارسنا إيماننا المسيحيّ بحقّ، لأنّ الكنيسة ترمينا في أحضان الحكمة.أسمع بولس الرسول يوصي تلميذه تيموثاوس قائلًا: «أنت تعلم الكتب المقدّسة منذ نعومة أظافرك، فهي قادرة على أن تجعلك حكيمًا فتبلغ الخلاص بالإيمان الذي في المسيح يسوع» (2 تيم 3: 15). إذا حيينا الإنجيل يومًا بعد يوم، فهذه فرصة لنا أن نصبح أشدّ جمالًا يومًا بعد يوم.
في يوم من الأيّام، تأمّلتُمع المؤمنين في الكنيسة نصًّا للقدّيس بولس يخبئ وراءه حكمة عظيمة. في رسالته إلى أهل كورنثس، يعدّد بولس ما له من امتيازات وحقوق كرسول يبشّر بالإنجيل: «أما لنا الحقّ أن نأكل ونشرب؟ أما لنا الحقّ أن نستصحب امرأة مؤمنة كسائر الرسل وإخوة الربّ وصخر؟ أم أنا وحدي وبرنابا لا حقّ لنا ألاّ نعمل؟ (1 كور 9: 4-6). هذه الحقوق اكتسبها بولس بحكم وظيفته كرسول، لأنّ المبدأ يقول إنّ العامل يأكل من تعب يديه: «من ذا الذي يحارب يومًا والنفقة عليه؟ من ذا الذي يغرس كرمًا ولا يأكل ثمره؟ من ذا الذي يرعى قطيعًا ولا يغتذي من لبن القطيع؟» (آ 7).
هذا هو المبدأ العامّ الذي ليس ضدّه ناموس. غير أنّ بولس يحاول، بمثله وسيرته، أن يرفع مبدأ آخر وهو أن تُسقط أحيانًا ما لك من امتيازات وحقوق مكتسبة لخير أرفع وهدف أسمى. ما هو لك بالقانون أو بالطبيعة أو بالمبدأ تتنازل عنه لخير أشمل. لقد سخّر بولس حرّيّته الشخصيّة وكلّ ما له من حقوق في سبيل هدف واحد: إنجيل المسيح! هو نفسه يقول: «مع ذلك لم نستعمل هذا الحقّ بل نصبر على كلّ شيء لئلّا نقيم أيّ مانع كان دون بشارة المسيح» (آ 12).
الإنسان يتعلّق بما هو له. هذه هي الطبيعة. لكنّ كلمة الله تعلّمنا طريقًا آخر: عليك أحيانًا أن تتنازل عمّا هو لك من أجل الخير العامّ، من أجل المصالحة وإحلال السلام. لا تحبس نفسك ضمن أسوار حقوقك المكتسبة وتخاصم من يحاول المساس بها، بل افتح قلبك قليلًا على إمكانيّة أن تخسر شيئًا ما، أن تفقدًا حقًّا من حقوقك من أجل الحبّ العام. في هذا التنازل الذي تدعو إليه كلمة الله قسطٌ أوفر من النضوج والحكمة. إذا عملت بهذا فإنّك تشبه المسيح نفسه الذي «لم يعدّ مساواته لله حقًّا مكتسبًا، بل أخلى ذاته آخذًا صورة عبد» (فل 2: 6-7). ما من بطولة بلا فقدان، بلا أن تكتوي بنار الخسارة. أن تحافظ على ما لك فهذا عمل الطبيعة، أمّا أن تقبل بأن تفقد حقًّا مكتسبًا من أجل هدف أسمى فهذا من عمل النعمة فيك.