بقلم / مسعود معلوف
سفير متقاعد
بعبارات مدروسة وبلهجة صارمة، هدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ أيام قليلة بأنه لن يتردد في استعمال جميع الوسائل العسكرية المتاحة في حال كانت سلامة الأراضي الروسية في خطر، مضيفا في كلمته المتلفزة أن ذلك ليس خدعة ولا مراوغة. وفي ذلك تلميح غير مبطن لإمكانية استعمال السلاح النووي. وبكلام أوضح لا لبس فيه، قال الرئيس الروسي السابق دميتري ميدفيديف لاحقا ان دول حلف شمال الأطلسي (ناتو) لن تتدخل إذا أطلقت روسيا قنابل نووية على أوكرانيا.
وقد سبق لكل من وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف وللناطق بلسان الكرملن دمتري بيسكوف أن لمح في بداية الإجتياح الروسي لأوكرانيا باحتمال اللجوء الى السلاح النووي، ولكن هذه التصريحات لم تؤخذ في حينه على محمل الجد، لأن الدول الغربية كانت تعتقد أن الجيش الروسي سيستطيع السيطرة على أوكرانيا بسرعة، لدرجة ان حلف الناتو اقترح آنذاك تشكيل حكومة أوكرانية في المنفى، كما أن الرئيس الأميركي جو بايدن عرض على الرئيس الأوكراني زيلينسكي إرسال طائرة خاصة الى كييف لنقله خارج البلاد.
ولكن بعد المقاومة الكبرى التي تعرض لها الجيش الروسي من قبل الجيش الأوكراني المدعوم بشكل غير مسبوق من الغرب وخاصة من الولايات المتحدة، وبعد التعثر في تحقيق الأهداف الروسية من الإجتياح، وبعد الهجوم المضاد الذي نفذه الأوكرانيون واستعادوا بنتيجته آلاف الكيلومترات المربعة من أراضيهم التي سبق واحتلتها روسيا في شمال وشرق البلاد، أصبح الحديث الروسي على لسان الرئيس بوتين بالذات عن امكانية استعمال السلاح النووي أمرا ممكن الحصول.
أحد أسباب احتمال استعمال روسيا للسلاح النووي هو أن بوتين رئيس الدولة العظمى، الذي عنده أحد أقوى الجيوش في العالم، لا يمكنه أن يقبل بهزيمة جيشه أمام دولة صغيرة نسبيا ويعتبرها جزءا من الأراضي الروسية، ولا يعترف باستقلالها وفق ما أكده في خطابه الشهير عشية الإعلان عن الإجتياح الذي وصفه في حينه بأنه “عملية عسكرية خاصة”، أي أن الجيش الروسي سيدخل الأراضي الأوكرانية لتنفيذ العملية والعودة الى قواعده. ومن منطلق التعثر في تحقيق أهداف هذه “العملية العسكرية الخاصة” قد يكون من الممكن أن يستعمل الرئيس بوتين كل الوسائل الحربية الممكنة، بما فيها الوسائل النووية، لتجنب الخسارة وما يمكن أن ينتج عنها من مضاعفات في الخارج وفي الداخل الروسي بالذات.
من جهة ثانية، أُجريت في مقاطعة دونباس الواقعة في شرق أوكرانيا، وكذلك في منطقة خيرسون في الجنوب، وهي مناطق احتلتها روسيا، استفتاءات لانضمام هذه المناطق الى روسيا، وإذا حاول الجيش الأوكراني لاحقا القيام بهجوم على هذه المناطق لاستردادها، فإن الرئيس بوتين سيستعمل جميع الوسائل، بما فيها السلاح النووي، إذ سبق له وحذر أنه سيستعمل جميع الوسائل المتاحة في حال تعرض سلامة الأراضي الروسية للخطر. هذا مع العلم أن الدول الغربية وفي طليعتها الولايات المتحدة، لا تعترف بهذا الإستفتاء الذي تؤكد أنه استفتاء صوري حصل تحت الضغط وفي ظل الإحتلال العسكري، ولكن روسيا أصبحت تعتبر هذه المناطق جزءا من أراضيها وأي اعتداء عليها سيشكل خطرا على سلامة الأراضي الروسية وعليها الدفاع عنها بجميع الوسائل المتاحة.
لذلك فإن ردات الفعل الغربية لم تتأخر في الظهور تعليقا على تهديدات بوتين.
المسؤول عن السياسة الخارجية في الإتحاد الأوروبي جوزب بوريل صرح بأن تهديدات بوتين باستعمال السلاح النووي جدية، وأن الرئيس بوتين لا يراوغ في هذه المسألة كما قال هو بنفسه.
من جهته، فإن أمين عام حلف شمال الأطلسي (ناتو) ينس ستولتنبرغ أعلن انه مع ضآلة احتمال استعمال الأسلحة النووية من قبل روسيا، إلا أن النتائج المتوقعة لأي هجوم نووي خطرة جدا، ولذلك علينا أخذ تهديدات الرئيس الروسي على محمل الجد.
أما الولايات المتحدة، فهي منذ مدة وحتى قبل تهديدات بوتين الأخيرة، قد وجهت تحذيرات الى روسيا، بطرق سرية، من مغبة استعمال السلاح النووي دون أن تعلن عن كيفية مواجهتها لمثل هذا الإحتمال، تاركة الغموض يلف موقفها كي لا تعرف روسيا بالضبط كيف سيكون الرد الأميركي. وقد جدد وزير الخارجية الأميركية أنطوني بلينكن علنا في خطابه أمام مجلس الأمن توجيه التحذير الأميركي الى روسيا بأن الولايات المتحدة لا تقبل بنتائج الإستفتاء الصوري، ولن تعترف بضم ألأراضي الأوكرانية اليها، كما أنها لن تسكت عن أي استعمال للأسلحة النووية من قبل روسيا، وأنها ستواصل دعمها لأوكرانيا بالمواد الدفاعية دون حدود.
كذلك أكد الرئيس جو بايدن في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أن تهديدات بوتين باستعمال جميع الوسائل الحربية المتاحة يشكل مخالفة فاضحة لجوهر العقيدة التي بنيت الأمم المتحدة على أساسها.
أما مستشار الأمن القومي الأميركي جايك سوليفان، فقد حذر بوضوح تام ان الرد الأميركي على استعمال روسيا للسلاح النووي في أوكرانيا سيكون حازما وصارما، وفي ذلك تهديد مباشر لروسيا.
في ظل هذه المعطيات، يمكن القول بأن وقوع حرب نووية، وإن كانت بأسلحة نوعية او تكتيكية، ليس بالأمر المستحيل كما أن حصول المزيد من الخسائر الروسية وعدم تمكين بوتين من تحقيق أهدافه من هذا الإجتياح قد تجعل هذا الأمر أكثر احتمالا.
ولكن في مقابل ذلك، هنالك معطيات تقودنا الى الإعتقاد بأنه من الممكن تجنب الوصول الى حرب نووية أهمها:
- تزامن تحذير بوتين باستعمال جميع الوسائل الحربية المتاحة مع اتخاذه قرارا بتعبئة عسكرية لثلاث مائة ألف عنصر إضافي لإرسالهم الى جبهة الحرب مع أوكرانيا، وفي ذلك ما قد يجنبه الخسارة العسكرية من جهة، والحاجة للجوء الى السلاح النووي من جهة ثانية.
- خطاب الرئيس الأميركي بايدن في الأمم المتحدة لم يكن صداميا ولم يتضمن تهديدات واضحة لروسيا، بل اكتفى بمحاولة ثني بوتين عن استعمال السلاح النووي، وقد فعل ذلك للحفاظ على إمكانية إيجاد حل للمشكلة خارج إطار الأسلحة النووية التي لن ينتصر فيها أحد وقد تشكل دمارا شاملا للبشرية.
- مع أن الرئيس بوتين قال بصراحة أن إمكانية استعمال روسيا لجميع الوسائل الحربية ليس خدعة، إلا أن البعض مقتنع بأن بوتين يراوغ هنا أيضا مثلما فعل عندما صرح مرارا بأنه لا ينوي اجتياح أوكرانيا، وهو الأن بصدد التهويل والترهيب كي تقبل أوكرنيا والدول الغربية الداعمة لها بشروطه لإنهاء الحرب.
- الكل يعلم أن استعمال السلاح النووي سيكون شرارة لحرب عالمية ثالثة قد تكون مدمرة للبشرية بأسرها، ويصعب الإقتناع بأن أي زعيم أو قائد أو رئيس يسمح لنفسه باتخاذ قرار معروفة نتائجه المدمرة بصورة مسبقة.
- يأمل أيضا كثيرون في الغرب أن إطالة الحرب في أوكرانيا مع ما تسببه من ضعف للإقتصاد الروسي بسبب العقوبات القوية، والإعتراضات الداخلية الحاصلة على التعبئة العسكرية واحتمال توسعها، ربما تتطور الى ثورة واسعة النطاق قد تطيح بالرئيس بوتين، أو ربما يحصل انقلاب يتم بموجبه إزاحة الرئيس الروسي بطريقة ما، ويتولى المسؤولون الجدد المفاوضة مع أوكرانيا لإيجاد حل سلمي ينهي هذه الحرب.
انطلاقا من هذه الوقائع، وانطلاقا ايضا من القناعة بأن بوتين – في حال لم يحصل اي تغيير في القيادة الروسية – لن يقبل بإنهاء الحرب دون تحقيق انتصار ما يمكنه أن يقدمه للشعب الروسي بعد الخسائر التي مني بها جيشه، من المحتمل تجنب اللجوء الى السلاح النووي عبر التفاوض بين روسيا وأوكرانيا على مصير الأراضي التي احتلها الجيش الروسي، وعلى كل فريق بالنتيجة أن يحقق مكسبا ما وأن يقبل ببعض التنازلات بعد هذه المفاوضات.
يمكن في هذه الحال أن تحتفظ روسيا بشبه جزيرة القرم، التي هي أصلا أرض روسية “أهداها” الرئيس الأسبق نيكيتا خروتشيف الى أوكرانيا في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي أيام الإتحاد السوفياتي حيث كانت جميع دول الإتحاد تشكل كتلة واحدة، كما يمكن التفاوض على منطقة الدونباس في شرق أوكرانيا والتي فيها نسبة مرتفعة من السكان من ذوي الأصول الروسية والذين يعتبرون أنفسهم من التابعية الروسية ولا يشعرون بولاء لدولة أوكرانيا، خاصة وأن بوتين أوجد أمرا واقعا على الأرض بتحقيق استفتاء (لم تعترف به الدول الغربية) لضم هذه المنطقة الى الإتحاد الروسي ومنح سكانها الجنسية الروسية.
بذلك يكون بوتين قد حقق نتيجة يستطيع أن يقول بموجبها أن الحرب والخسائر الروسية لم تذهب سدى، وكذلك الرئيس الأوكراني زيلينسكي يستطيع أن يقول أن جيشه تمكن من التصدي للجيش الروسي الجبار ولم يسمح له باحتلال العاصمة وقلب النظام فيها ووضع حكومة موالية لروسيا. وربما يمكن عندئذ قبول أوكرانيا بصيغتها الجديدة في عضوية الإتحاد الاوروبي وحلف شمال الأطلسي مع ما يمكن أن تحصل عليه من مساعدات لإعادة الإعمار وفوائد اقتصادية ودفاعية نتيجة لذلك.
ولا بد من التأكيد في الختام أن وقوع حرب نووية ليس بالأمر المستحيل في الظرف الراهن، ولكن أية تضحية لتجنيب البشرية من الدمار الشامل ينبغي أن تحصل، وهكذا تضحية من كل من الفريقين لا شك أنها ستكون موضع تقدير عند جميع سكان المعمورة، وقد تؤدي، بالنتيجة، الى تقارب بين دول الناتو والمعسكر الشرقي، وتجنب العالم كوارث لاحقة.