بقلم: شريف رفعت
تفتح السكرتيرة باب حجرة مكتبه ببطأ، تقود للداخل رجل و إمرأة ثم تغلق الباب بهدوء. يتقدمان لمكتبه، يعرفه الرجل بنفسه و بإمرأته، واضح أن الرجل ثري و مميز اجتماعيا. يطلب منهما الجلوس مرحبا بطريقة مهنية متحفظة. يبدأ الرجل فورا في الكلام:
ـ دكتور، أنا هنا بخصوص ابني فادي، عمره إثنان و عشرون سنة، في السنة النهائية بكليته. تعرف منذ عدة أشهر على إمرأة مطلقة، تكبره بستة أعوام و على غير ديننا، المرأة مستحوذة تماما على تفكيره، يمضي الساعات معها، صارحنا بأنه يحبها. هي غير مناسبة له إطلاقا. أكيد الساعات التي يقضيها معها ستؤثر على مستواه الدراسي. لا أود أن نتقاعس في هذا الموضوع حتى نراه يرتبط بها.
و كإن الأم شعرت أنها يجب أن تساهم في النقاش فقالت بانفعال:
ـ ثم أن واحدة في العشرينات مطلقة، ترى ما سبب طلاقها؟ احتمال كبير زوجها تركها لأسباب أخلاقية.
تأملهما بمهنية، واضح أنهما من الطبقة التي تحصل على ما تريد على جميع الأصعدة. سألهما:
ـ وما هو المطلوب مني بالضبط؟
يرد الرجل:
ـ أكيد الولد جرى له عملية غسيل مخ، هذه المرأة غسلت مخه كي يقع في حبها، عملت برمجة لفادي. أنا عشت فترة من حياتي في الغرب، أعرف أن عندهم ما يطلقون عليه عكس البرمجة، أنت تعرف ذلك أكيد يا دكتور «دي بروجرامينج»، عندهم أخصائيين في هذا المجال، في مصر الأمر غير معروف على نطاق واسع. لكني أرى أن طبيب نفسي هو الأقدر على هذا الموضوع. لذلك أتيت لك، أنا و زوجتي و قبلنا فادي نحتاج لخدماتك.
انتظر برهة كي ينظم أفكاره ثم قال:
ـ لا أرى أن ما يمر به فادي ناتج عن عملية غسيل مخ، هذه في الغالب لا يصنف تحتها تأثير فرد على فرد آخر، هذا المصطلح يستخدم أساسا في وصف تأثير طائفة لها معتقدها الديني أو مذهبها السياسي على من يودون استقطابهم، يستخدم في ذلك طرق ممنهجة و ضغوط نفسية و عقلية. حالة فادي مجرد شاب أساء التقدير و الاختيار من وجهة نظركما.
ظهر على المرأة ملامح عدم الفهم بينما انبرى الرجل:
ـ لا أود أن أدخل معك في نقاش أكاديمي، ببساطة و وضوح أريدك أن تتحدث مع فادي و تقنعه بأن علاقته بهذه المرأة خطأ، هو لا يقبل حديثي معه، قد يكون عنده حساسية من سلطتي كأب. أنت ستكون في الغالب أقدر على التعامل معه، مصاريف العلاج ليست بعائق.
فادي لا يشبه والده، فهو نحيل طويل أسمر، شعره غزير به تجعيدة و يتركه متمردا دون تمشيط، عيناه كبيرتان جميلتان بهما نظرة بريئة قلقة متوجسة. صافحه الطبيب مبتسما، أجلسه قبالته و بدأ يسأله أسئلة روتينية و يسجل المعلومات في صفحة أمامه. ثم في محاولة لإزالة ريبته و خلق تواصل معه بدأ يحادثه عن دراسته و اهتماماته. فادي يرد ردود مقتضبة. ثم انبرى قائلا:
ـ أبي و أمي حدثوك عن علاقتي بسالي. أرسلوني لك كي تقنعني بالابتعاد عنها، كأن علاقتي بها نوع من الجنون، أليس كذلك؟ في البداية رفضت الحضور لكن ها أنا ذا فليس هناك ما يقلقني. أنا مقتنع بما أفعل.
لأن هذا الموقف مر به مئات المرات، قال له بهدوء:
ـ لا أستطيع إجبارك على اتخاذ أي قرار، وظيفتي أن أساعدك على التفكير و أنت من يتخذ القرارات. حدثني عن سالي.
ـ كما قال لك والدي هي مطلقة و أكبر مني في السن و ديانتها مختلفة.
كان يتوقع هذا التحدي فقال له بمنتهى الهدوء:
ـ لا يعيب أي إمرأة أي من هذه الصفات، لكن انسى ما قاله لي والديك عنها، قل لي رأيك أنت فيها و في شخصيتها.
صمت فادي برهة ثم قال:
ـ هي إنسانة رائعة، في منتهى الطيبة، كأنها من عالم آخر غير واقعي، دائما متفائلة، تنظر للجانب الإيجابي في الحياة، مثقفة و معلوماتها غزيرة في مواضيع عديدة، تقوم بأعمال تطوعية في وقت فراغها، صريحة بطريقة عفوية طفولية، تخلو من الحرص الغريزي الموجود في النساء و الذي يدفعهن للمواراة و أحيانا الكذب.
أخذ صوته في الارتفاع و هو يتحدث بحماسة و عاطفة، استمر:
ـ ليست رائعة الجمال لكن ملامحها مليحة مريحة، وهي غاية في الجمال كإنسانة.
ـ فادي، سأسألك سؤال أرجو أن تجيب عليه بصراحة، حدثني عن عيوبها، إذا كانت هناك صفة وحيدة فيها تود أن تغيرها، ما هي؟
صمت فادي برهة ثم أجاب:
ـ أعتقد أنها لا تهتم اهتمام كافي بالشأن العام، قد لا يلاحظ رجل آخر هذه الصفة فيها، لكني و بسبب أني مشغول بالشأن و الهم العام أتمنى لو أنها تعطي هذا الموضوع بعض الاهتمام، لكني متأكد أن هذا سيأتي مع الوقت.
ـ هل تعتبر هذا نوع من الأنانية؟
ـ أنها ليست الوحيدة في البلد التي لا تهتم بالشأن العام، هناك الملايين مثلها، قد يكون جو الإحباط العام المنتشر في مجتمعنا هو السبب، لكني لا أبالي بذلك، ما يهمني أني و أنا معها أشعر بسعادة غامرة، شعور رائع قد لا تصدقني إذا قلت لك أني و أنا معها أشعر بشيء من الروحانية، أشعر بأني أقرب لله، حتى و نحن نتحدث في مواضيع تافهة لمجرد تمضية الوقت تصبح هذه المواضيع معها غاية في الجمال.
عاد لحماسته في الكلام، التعبيرات على وجهه جميلة حالمة رائعة، استمر:
ـ أنسى متاعب الحياة و أنا معها، أشعر أني شخص مهم، أشعر أنني في حلم جميل.
سرح الطبيب للحظة، مرت به موجة شجن قادمة من ماض بعيد سحيق، شعر بالتوحد و التعاطف مع مريضه. يعلم أن هذا خطأ فمن أولويات مهنته كطبيب نفسي أن يضع حاجز مهني بينه و بين الحالة.
أنهى الجلسة، قال لفادي قبل أن ينصرف.
ـ سأراك بعد أسبوع، حتى ذلك الحين أريدك ان تفكر بعمق و حيادية فيما تحدثنا عنه اليوم.
حضر فادي الجلسة التالية، كانت نظرته حائرة، استقبله الطبيب مرحبا، قال له:
ـ أحسنت بمجيئك، بعض الحالات بعد أول جلسة لا يعودون.
ـ سالي هي من شجعتني على الحضور، أنا أحكي لها كل ما يمر بي، أدق تفاصيل حياتي و أخص مشاعري نناقشها معا، أخبرتها عن لقائنا السابق بتفاصيله، قالت لي «إذهب للجلسات التالية، إن لم تستطع علاقتنا أن تتحمل زياراتك لطبيب نفسي فالأحسن ألا تستمر.»
ـ حسنا جدا، تكلمنا في الجلسة الماضية عن سالي، حدثني اليوم عن مشاعرك نحوها.
مرت ابتسامة عذبة على وجه فادي ثم قال:
ـ ببساطة أحبها، أحبها لأنها إنسانة جميلة أشعر بالسعادة و أنا معها، إنها ليست فقط حبيبة لكنها أيضا توأم روحي. كي أريحك سأقول لك ما قلته لوالدي عدة مرات، أنا لا أفكر في الارتباط بها في الوقت الحالي، كل ما يهمني أن أقضي وقتا معها، أرجو ان يتركني العالم أفعل ذلك دون أن يتدخل احد في شئوني.
ـ أستنتج من ذلك أنها تعلم بمشاعر والديك تجاه علاقتكما.
ـ بالطبع قلت لك أني أناقش كل أموري معها،
ـ هي إذا مستمرة في علاقة مع شاب أصغر منها رغم أن هذه العلاقة تضره أسريـا.
ـ أنا من يصمم على استمرار العلاقة فلا تلقي باللوم عليها. و انا مستعد لتحدي موقف والداي الذي أراه غير منطقي.
ـ تتحدى، فكر في هذه الكلمة، هل رغبتك في التحدي هي ما يجعل علاقتك بسالي مثيرة و جميلة و شاعرية، رغبتك في تحدي جميع العواقب و الانتصار عليها من أجل ما تعتقد أنه حب؟ أليس شعور التحدي شعور جميل.
ـ أنت تتعمد خلط الأمور أنا أتحدى لأني أحبها و ليس العكس.
ـ عموما فكر فيما تحدثنا فيه في جلسة اليوم.
ـ فلننسى سالي لحظة، سأسألك سؤال عام لا علاقة له بها، ما رأيك في الحب؟
سكت فادي برهة، فوجئ بالسؤال، ثم رد ببراءة:
والبقية في العدد القادم