بقلم: نادين باخص
ربما كانت الكتابة المهنة الوحيدة التي يستطيع أيّاً كان أن ينسبها إلى نفسه ببساطة. إذ لا يمكن لأحدهم أن يقول: أنا طبيب مثلاً، أو أنا مهندس إن لم يكن كذلك حقّاً، ولكن ما أسهل أن يقدّم نفسه على أنّه كاتب، حتّى وإن لم يكن له سطر واحد منشور، فكيف إذن إن كان حذقاً ونشيطاً لدرجة أنّه قام بتقديم مخطوط يحتوي على مجموعة (خواطر) إلى قسم المخطوطات بوزارة الإعلام للنظر في أمرها، ومنحها موافقة النّشر. وغالباً أنّها ستُمنح الموافقة إن كانت خالية من التابوهات الشهيرة، أمّا السويّة الفنيّة، فلا بأس في تدنّيها أو انعدامها حتّى. وإذا بالكاتب المزعوم قد صدّق نفسه حين يعلم بأنّ مخطوطه قد فاز بالموافقة. ولم يكن منه إلا أن حمل مخطوطه المختوم بجواز النشر، وتوجّه به إلى أقرب مطبعة أو ربّما مكتبة بهدف طباعة عدد معيّن من النّسخ، يتراوح من شخص إلى آخر تبعاً للهدف الذي دفعه للطباعة. فمنهم من يقوم بطباعة كتاب ليهدي معارفه وأصدقاءه، وهي خطوة قد تكون مشروعة ولا تضير أحداً. ولكن أن يطبع الكاتب المزعوم كتاباً بهدف المتاجرة والرّبح، ومن باب أنّه كاتب ويحقّ له، فهو أسوأ ما قد يحصل، وهو ما يُسهم في بثّ أفكار خاطئة حول الكتّاب الحقيقيين، وحول طقوس نشرهم لكتبهم. فحين يقوم الكاتب المزعوم _وهو غالباً ما يتّسم بشعبيّة يفتقدها الكاتب الحقيقيّ_ بالطباعة على نفقته، في مطبعة عادية، أو مكتبة صغيرة، من ثمّ يلجأ إلى بيع كتابه في المكتبات، أو عبر إقامة حفل توقيع يدعو إليه أصحابه وأقرباءه، فيعجّ بالنّاس كما لا يحدث في حفل توقيع كاتب كبير، عندها سيصدّق هو ومَن حوله أنّه كاتب، وسيبدأ شيئاً فشيئاً ينحسب _من قبل المجتمع_ على الكتابة والكتّاب الذين تبنّت دور نشر مهمّة كتبهم وطبعتها على نفقتها.
صحيح أنّ الكاتب الحقيقيّ لا يهمّه هذا كلّه، فهو يعلم أنّ كلّ امرئ يُنادى له باسمه، ولكنّه لا يملك إلا أن يصاب بالغيظ، إن جاء أحدهم وأدخل أحد كتبه في مقارنة مع كتاب الكاتب المزعوم. وغيظ الكاتب الحقيقيّ هنا مشروع ومسوّغ.
وصحيح أنّ الكتابة _كفعل_ أمر مشروع للجميع، وما أكثر مَن يتّخذ الكتابة متنفّساً جميلاً له، أو يعدّها خلاصه من الإتيان بردّات فعل عنيفة، أو تكون الكتابة بالنسبة إليه وسيلة يفرّغ بوساطتها شجونه، أو يعبّر عن سعادته.. وما أكثر النّاس الذين يعترفون بأنّهم يمارسون فعل الكتابة، لكنّهم يحرصون على الاحتفاظ بنصوصهم في دروجهم الخاصّة، ليس بالضرورة لأنّهم يمتلكون ما يكفي من الوعي الذي يجعلهم يتنبّهون إلى أنّ كتابتهم غير صالحة للنّشر، بل لأنّهم يعدّون الكتابة شيئاً شخصيّاً لا رغبة لديهم في إعلانه. بالمقابل، هنالك من يمارسون فعل الكتابة ويخالون أنّهم باتوا كتّاباً حقيقيين، وهؤلاء يصادفهم المرء بكثرة عبر صفحات الجرائد المحليّة والمجلات الخاصّة التي تُفسح مجالاً لمثل تلك الأقلام، لأسباب تتراوح بين افتقار المحرّرين للمواد، وحاجتهم لأيّة مادّة تملأ حيّزاً من بياض الصفحات، ومعرفة مسؤولي الصفحات بأصحاب تلك الأقلام، ممّا يدفعهم لإفساح المجال لهم للظهور، وإذا بتلك المنابر تكرّس أسماء لا علاقة لها بالكتابة، حتّى أنّ موادهم يتمّ نشرها بأخطائها الكارثيّة التي تتنوّع بين نحويّة وإملائية وأسلوبيّة نظراً لضعف لغتهم، ولعدم تفعيل العنصر الأهمّ في معظم الصحف والمجلات بالشكل المطلوب، وهو التدقيق اللّغويّ، في حين يكاد ينعدم ما يُسمّى بديسك التحرير الذي يتولّى مهمّة تحرير المواد بعد استلامها من أصحابها.
وبالطبع، ليس كلّ من كتب سطرين أو عشرة بكاتب. وما كلّ ما يُكتَب يمكن نشره لمجرّد رغبة كاتبه بذلك، ولمجرّد أنّه لا يمسّ الدّين بسوء، ولايخدش الحياء. فلابدّ من أن تكون هنالك رقابة تراعي معايير الفنيّة بجديّة، وتحجب موافقات النّشر عن النصوص التي لا تمت للأدب بصلة. فمنح موافقات النّشر لنصوص خالية من الفنيّة يشبه منح شهادات القيادة لأشخاص لا يتقنوها، ممّا يؤدّي إلى ازدحام لا يسفر إلا عن زيادة في الحوادث الأليمة.