بقلم: محمد منسي قنديل
أغنية فريد الأطرش القديمة والشجية، عمرها 64 عاما، ظهرت في فيلم “آخر كدبة”، كتبها واحد من أعظم شعراء العامية بيرم التونسي، وشاركت في الغناء مطربة عملت كثيرا دون أن تنال حظها الشهرة هي عصمت عبد العليم، ورقصت عليها سامية جمال، ورغم أن فريد كان مطربا حزينا بوجه عام إلا أنه شهد فترة كانت الأكثر مرحا وابداعا، ويبدو أن كثرة الافلام الغنائية الخفيفة في هذه الفترة كانت محاولة لتخفيف الواقع المرير بعد هزيمة الجيوش العربية المميتة وضياع الشطر الأكبر من فلسطين، عصابات صهيونية تغلب الجيوش العربي الرسمية، تفقدها شرعيتها، وتأتي الأغنية كنوع من رد الفعل على النكبة، للتأكيد على الوجود العربي، لم يع العرب وقتها أن عالمهم قد تغير إلى الأبد، ولن يقدر لهم أن يمتلكوا مصائرهم أو يقرروا تاريخهم بعد ذلك، كانوا فقط فرحين بقرب استقلالهم وتكوين البذور الأولى للدولة الوطنية، وكانت المدن التي كان يطوف بها البساط، ماتزال غضة، لحمها مكشوف لسنابك الاحتلال البريطاني والفرنسي ثم الصهيوني أيضا، ولكن العالم العربي كان اكثر تماسكا وإحساسا بالارتباط عما هو الآن، فقد كان يعاني من محنة الاحتلال المشتركة، ولم تكن الحروب العربية – العربية قد استعرت بهذا القدر من الشراسة، وسقط فيها كل هذا العدد من الضحايا، وجاء بساط فريد الأطرش في وقته المناسب، فهو مريح و” كله أمان ولا البولمان” والأخير هو القطار السريع الذي كان قد دخل إلى مصر حديثا، ولم يكن يتعرض لقطع الطريق أو حوادث المزلقانات أو أن يحترق بركابه، اصبح القطار الآن احد بؤر الخطر في حياتنا، وزادت أيام التعطل عن ايام العمل، لم يستخدم فريد الأطرش القطار في رحلته للشام لأن اسرائيل كانت قد اوقفت نهائيا القطار الذي كان يعبر سيناء ويصل القاهرة بالقدس، وتجسدت القطيعة البرية بين مصر والشام وضاع حلم الدولة الموحدة التي هزمت الصليبين ذات لحظة من مجد غابر.
رحل البساط أولا إلى سوريا ولبنان، إلى كتلة جغرافية واحدة، تجمعها أواصر من الدم أقوى من وهاد الطبيعة، حدود البلدين غارقة الآن في الدماء، تدور فيها واحدة من أشد المعارك شراسة في حرب الأهل، ولا أدري كيف انجر “حزب الله” ودخل المعركة الخطأ، وكيف وصل به الأمر إلى أن ضحاياه اصبحوا أكثر بكثير ممن تساقطوا أمام اسرائيل، نسيم الشام لم يعد شفاء الأرواح كما يتغنى به فريد، خليط من رائحة الجثث المتعفنة وحرائق لا تنطفئ وضحايا الاسلحة الكيمائية المحرمة، فسد النسيم وماتت البهجة ودمرت المدن السورية الحبيبة بيد اهلها، حلب كانت هي مدينة الطرب، ولها نمط غنائي خاص هو “القدود الحلبية” التي برع فيها صباح فخري، وعندما ذهب محمد عبد الوهاب للغناء في هذه المدينة، وكان وقتها مطرب الملوك والأمراء، لم يسمحوا له بالغناء مباشرة، جعلوه يغني أولا في حفلة خاصة لا يحضرها سوى ثلاثة من أكبر “السميعة” في المدينة وعندما رضوا عنه سمحوا له بالغناء في حفل عام، وكان نجاحه مدويا لأنه استطاع بذكائه ان يفهم ذوق أهلها في الغناء من خلال هؤلاء “السميعة”، لقد تحولت القدود الحلبية الآن إلى صرخات استغاثة دون مغيث.
ويواصل البساط الرحيل إلى بغداد، وهي ايضا تمر الآن بلحظات تعيسة من تاريخها، فالسيارات المفخخة لا تتوقف، ينصبها غرماء الوطن من الشيعة والسنة لبعضهم البعض، رحل الأمريكيون وتركوا نار الفتنة مشتعلة، لا يستطيع فريد الأطرش أن يهتف بنفس حماسه القديم: “نروح يا بساط على بغداد.. بلاد خيرات بلاد أمجاد”، فلا أحد يدري من أين تأتي الضربة القادمة، وقد تسبب هذا المقطع في منع إذاعة هذه الاغنية في جميع وسائل الاعلام الكويتية طوال فترة ازمتها مع نظام صدام حسين، ولا أدري إن كان قد تم الافراج عنها الآن أم لا، ولكن من الصعب علينا عدم التغني لبغداد، حتى وهي في هذه الحالة التي يرثى لها، “يا دجلة أنا عطشان ما اقدر ارتوي”، هكذا تقول الأغنية، فقد تركنا نهرها عطشى وهو الذي روى ازهى أيام التاريخ، كانت “أم كلثوم” زائرة دائمة لهذه المدينة في أيام العهد الملكي، في كل عام تأتي إليها لتقيم حفلة في قصر الملك لتصبح هي الحدث الفني لمدة عام ، وقد قابلت في الكويت أحد المعجبين القدامى لأم كلثوم، كان يمتلك مجموعة تسجيلاتها كاملة من إذاعة بغداد اضافة للجرائد والمجلات التي كانت تصدر في وقت زيارتها، واصبحت هذه التسجيلات نادرة ولا يوجد لها اصول في اي إذاعة بما فيها بغداد، وبنى الرجل من أجلها غرفة مصفحة ومحصنة ضد الحريق، وعندما طلبت منه إذاعة الكويت بعض هذه التسجيلات أشترط أن يأتوا إليه وتتم التسجيلات أمام عينيه ولم يسمح إلا بدقائق محدودة، كان حريصا على كنزه كبخيل ايرلندي.
ويقفز البساط من مشرق العرب إلى مغربهم، من بغداد إلى مراكش وتونس، ومراكش مازال يطلق على المغرب كله في اللغات الأوربية، “بلاد الحوت والغلة والزيتون”، كما في الأغنية، لأنها اكبر البلاد العربية انتاجا للأسماك، وهي التي نقلت شجرة الزيتون للأندلس القديمة، ولكن الحديث عن تونس هو أجمل المقاطع في هذه الأغنية، فالحنين إليها يحرق كبد الشاعر بيرم التونسي، خاصة وهو يتذكر غزلانها البيض اللواتي يتجولن في مدائن المرسى وحلق الوادي، لم يعد هناك أمان للغزلان، فالثورة التي أهدتنا بها تونس جاءت على غير ما نتوقع، خلصتنا من الحكم العسكري المباشر، حكم الشرطي السابق في تونس والطيار الأسبق في مصر، ووضعتنا معا تحت مستقبل مهتز لا أمان فيه لأحد، تونس مدينة الفن والمهرجانات صعدت فيها القوى المعادية للفن والغناء، ولو جاء فريد إليها الآن ببساط الريح لأصبح مطاردا، فهذه الأنظمة أحرص ما تكون على قتل روح البهجة، عندما كنت في تونس منذ سنوات عرض التلفزيون فيلم “الوسادة الخالية” ربما للمرة المائة، ولدهشتي سهرت المدينة بأكملها تتابعه، وكان هو محور حديثها في الصباح، وقالت لي سيدة تونسية عندما احست بدهشتي: “انتم تعتقدون أن عبد الحليم حافظ قد مات بينما مازال حيا عندنا”.
وفي النهاية كان يجب أن يختم البساط رحلته في مصر، “أنا لفّيت كثير ولقيت البعد عليَّ يا مصر طويل”، المعنى نفسه الذي رافق “بيرم” في سنوات المنفى، ولكن مصر ليست بأفضل حال من بقية المدن التي زارها البساط، كأن هناك فخ قد نصب لكل المدن التي حلمت بالحرية والاستقلال واستعادة الكرامة، في أحيان كثيرة عندما أكون في احدى حفلات الموسيقى العربية، يلح على ذهني أن هذه هي الحفلة الأخيرة، وتتبدى أمامي رؤيا كابوسية، فأري باب المسرح وهو يقتحم ويظهر اناس لحاهم طويلة وثيابهم قصيرة، يمسكون سيوفا حادة وسكاكين معقوفة، ويهجمون على الجميع، من يغني ومن يستمع، ومن الغريب أنني وجدت الكثيرين يشاركونني في هذه الرؤية المخيفة.