بقلم: د. حسين عبد البصير
“قصة خوفو والسحرة» الشهيرة، استفسر الملك خوفو، صاحب الهرم الأكبر بالجيزة من عصر الأسرة الرابعة، من الساحر جدي عن قدرته على إعادة رأس الإنسان المقطوع بسحره مرة أخرى إلى مكانها، فرد عليه الساحر، قائلاً: «نعم». فأمر خوفو بإحضار أحد السجناء حتى يستخدمه جدي. لكن الساحر رد قائلا: «ليس على رجل يا مولاي». فأحضروا للساحر إوزة، فقام بإلقاء تعاويذه السحرية، حتى فوجئ الكل برأس الإوزة ينفصل عن الجسم ويطير نحو سقف قاعة العرش، والكل ينظرون إليه بذهول عجيب غير مصدقين أن هذا يمكن أن يحدث أمام أعينهم. وبعد أن طار الرأس إلى أعلى، وجد المشاهدون الرأس يعود مرة ثانية ويلتصق بجسم الإوزة، ثم تجري خارجة إلى حظيرتها. ويمكن أن نستنتج من هذه القصة أن مصر قد عرفت السجون منذ عصر الدولة القديمة وفقًا لسرد الأحداث بهذه القصة. وفي تعاليم «مري كا رع»، جاءت هذه القيمة المهمة حيث يقول: «لا تقتل؛ فان ذلك لا يعود عليك بالفائدة، بل تُعاقب بالضرب والحبس».
وجاء عدد من الإشارات عن السجون في مصر الفرعونية من عصر الدولة الوسطى حين ذُكر أن الفراعنة كانوا يسجنون الخارجين عن القانون من غيرالمصريين. وكان سجن اللاهون في إقليم الفيوم واحدًا من أشهرسجون مصرالفرعونية. وعُثر به على قوائم بأسماء بعض السجناء.
وفي عهدالملك رمسيس الثالث تم اتهام بعض السيدات بالسرقة، وأدخلن السجن في مدينة طيبة. ولعل ما بين ما شاع في العصر المتأخر، وكان تقليدًا مختلفًا تمامًا، كان يتم اللجوء إلى العدالة الإلهية فى المعبد الكبير فقط، واُطلق عليه «باب العدالة»، وتصفه النصوص «أنه المكان الذي يُصغى إلى همسات المظلومين حيث يُحاكم الضعفاء والأقوياء على قدم المساواة، وإقامة العدالة ورفع الظلم».
ويمكن أن استنتاج أن بعض المعابد المُناط بها العدالة والقضاء ضمت سجونًا من أجل حفظ المتهمين فيها، منفصلة تمامًا عن السجون المدنية. ومما يشير إلى ذلك بردية تورين حيث نجد بها جملة «المساجين فى المدينة بالمعبد»، وتُترجم أيضًا بـ «المساجين في المدينة والمعبد». وبالرغم من أنه لا يوجد شيء صريح يُشير إلى وجود السجون فى معابد مدينة منف، فربما كان وجود تلك السجون شيئًا منطقيًا في ظل الدور الذي لعبه كهنة تلك المعابد باعتبارهم «قضاة العدالة»، وخاصة أنه توجد بعض الإشارات التي يُمكن أن يُستدل منها على وجود سجون مُلحقة بالمعابد الكبرى، وبطبيعة الحال كانت معابد منف، وخاصة العظمى منها.
ومن هنا، نخرج بالقيمة الإنسانية العظمى التي أبدعتها مصر الفرعونية لإصلاح الفرد من خلال الاحتجاز في السجون عبر إرساء مبادئ العدالة وتطبيق القانون.
صناعة الآلهة عادة مصرية
صناعة الآلهة وتآليه البشر وتقديس الأبطال والاحتفال بهم اختراعات مصرية صميمة!
فلنبدأ القصة منذ البداية؛ يعد الدين أو بمعنى أصح التدين العميق المفتاح الحقيقى لفهم طبيعة المصريين ولتحليل أبعاد الشخصية المصرية. وفى هذا الصدد، وصف الكتاب الكلاسيكيون مصر بأنها «معبد العالم» و»أن الآلهة ما تزال تسكن هناك». ومن مصر خرج الدين بامتياز للعالم القديم كله. واستثمرت مصر بشكل ناجح العقل الغيبى ووظفت الخرافة للسيطرة على الخوف وقهر المجهول. وكان من قوة الديانة المصرية أن اشتهرت الآلهة والإلهات المصرية خارج حدود مصر وغزت الإمبراطورية الرومانية فى عقر دارها وفى أرجاء عديدة منها حتى صارت عقائد المصريين خطرا حقيقيا يهدد مجد الإمبراطورية والديانة الرسمية للدولة؛ فبدأت فى محاربتها.
ولعب الدين الدور الأساسى فى كل ما أنجزته مصر عبر تاريخها الحضارى الطويل. وعن المصريين، يقول المؤرخ الإغريقى الأشهر هيرودوت («أبو التاريخ» أى «سيد المؤرخين الأوائل»، أو «أبو الأباطيل»؛ نظرًا لاحتواء كتاباته على العديد من الأكاذيب) – فى كتابه الثانى عن مصر من كتبه التسعة – موضحا:»وهم يزيدون كثيرا عن سائر الناس فى التقوى.» فبرعت مصر فى اختراع الدين سابقة بذلك حضارات العالم القديم جمعاء فى هذا المضمار. وتفنن المصريون فى صناعة آلهتهم وتقديس معبوداتهم. وتعددت وتنوعت وتداخلت تلك الآلهة والمعبودات بشكل مذهل فاق كل التصورات. وكان من بين ما استرعى انتباه هيرودوت – وكذلك أثار آخرين غيره من الكتاب والباحثين إلى وقتنا الحالى – تقديس المصريين للحيوانات. فنراه يقول متعجبا فى هذا الأمر:»لكن المصريين يقدسون كل الحيوانات التى توجد فى بلادهم – مستأنسة كانت أم غير مستأنسة –».
وبلغ المصريون حدودًا قصوى فى إصباغهم هالات من القداسة وأطوار من الحماية وآيات من الخوف على رموزهم المقدسة (من آلهة وإلهات وحكام وبشرين مؤلهين وحيوانات) التى أبدعوها بمخيلتهم التى جبلت على عشق الخوف والاستماتة لدرء الخطر بتقديس مظاهره واتخاذ معبودات تمثله حتى يتجنبوا شره، وحب جلب المنفعة بتقديس مظاهر الطبيعة المفيدة وتخصيص آلهة لها بارة بهم وبأرضهم.
وكان التوفيق بين المعبودات القديمة ذات الأصول التاريخية العريقة والمعبودات الجديدة الوافدة سمة بارزة من سمات الشخصية المصرية التى تقدس وتبقى القديم والجديد معنا دون نفى للقديم أو انتصار للجديد، وفى تناغم لم يجد المصريون فيه أية غضاضة أو غرابة. وفى هذا ما يؤصل لفكرة الثبات والجمود ومعايشة القديم جنبا إلى جنب مع الجديد دون تحقيق أى تقدم أو تطور يذكر على أى صعيد من الأصعدة على الرغم من التظاهر الملح بالتعددية والتسامح والتعايش.
ويقول هيرودوت أيضًا:»لقد جاءت أسماء الآلهة كلها تقريبا من مصر إلى بلاد اليونان.» وفى هذا ما يشير إلى الأصول المصرية لآلهة الإغريق؛ فمعظم آلهتهم «وجدت دائما منذ القدم فى مصر»، كما يذكر هيرودوت الذي يؤكد على أن المصريين لم يعتقدوا «مطلقا فى عبادة الأبطال» كما عرفها الإغريق؛ ففى رأيه أن البطولة الفردية لم تكن موجودة فى مصر. وقد يكون هذا الأمر صحيحا إلى حد ما فى زمن زيارته لمصر فى حوالى منتصف القرن الخامس قبل الميلاى عندما كانت مصر فى أسوأ حالاتها ويوشك العطاء الحضارى لأبناء وادى النيل الخصيب أن يصل إلى مرحلة الشيخوخة والإنزواء فى زوايا الموات وجنبات النسيان؛ غير أن البطولة الفردية وتقديس الملوك الأسطوريين والأفراد الأفذاذ كانت نهرا لا ينضب فى مصر؛ فخلف كل بطل يموت يولد بطل جديد يأتى من المجهول من غير المعروفين والمتوقعين يحيل ظلام مصر الحالك إلى شمس وضاحة الضياء، ويحمل مصر بين جوانحه وفى حنايا قلبه، ويبذر بذور الخير والعدالة والنظام والأمن والرخاء.
وحتى يشعر المصريون آلهتهم وحكامهم والبشر المؤلهين وحيواناتهم المقدسة بمكانتهم العالية لديهم، اخترع المصريون الأعياد والاحتفالات والليالى الملاح. ويقول هيرودوت فى هذا الشأن:»ولقد سبق المصريون الشعوب إلى إقامة الأعياد العامة والمواكب العظيمة، وعنهم تعلمها اليونانيون. ودليلى على ذلك أنها تقام عند المصريين منذ زمن بعيد، بينما لم يحتفل بها اليونانيون إلا منذ وقت قريب. والمصريون لا يحتفلون مرة واحدة فى السنة بعيد شعبى عام؛ ولكن أعيادهم العامة كثيرة.» فالأعياد والاحتفالات الكثيرة بمناسبة ودون مناسبة هى الأخرى مصرية الأصل ومرتبطة فى المقام الأول بإظهار آيات التبجيل والإجلال والتقديس من قبل الشعب لرموزه المقدسين من أجل أن يسعد الشعب وينعم بالاحتفال الجماعى. ونظرة غير عميقة إلى ما حولنا من ظواهر وأحداث وأشخاص فى كل حارة وشارع فى كل حى وقرية ومدينة يتضح لنا صدق مقولة أن صناعة الآلهة وما يرتبط بها عادة مصرية.
الانتحار في مصر القديمة
لم يكن الانتحار معروفًا على نطاق واسع في مصر القديمة. واعتقد البعض أن إنسانًا مصريًا قد انتحر. والحقيقة أن هذا عمل أدبي يُطلق عليه «اليائس من الحياة». وهو من النصوص الأدبية الجميلة والمهمة التي جاءت لنا من مصر القديمة. وهو عبارة عن حوار أدبي ذي مغزى فكري وديني وسياسي بين اليائس من الحياة وروحه. ولهذا الحوار صفة النزاع الكلامي والجدل الفكري بين الذات المتمثلة في الفرد الذي يأس من حياته نظرًا لانتشار الظلم والفساد في العالم وبين الروح التي تسعى لإقناع الذات للإقدام على الانتحار كي تتخلص من مساوئ هذا العالم المليء بالأزمات والفوضى.
وكان الواقع الاجتماعي الذي كان يعيش فيه ذلك الرجل ظالمًا حيث ساءت أحوال البلاد والعباد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وانتشر الشر والفساد في كل مكان ولم تعد لقيم الخير مكان عند الناس فقد قل الأمن والأمان والوفاء لدرجة أنه لم يعد للإنسان من صديق أو أخ أو جار يتحدث إليه فالإخوة والأصدقاء أصبحوا أعداء لبعضهم. وغدت الثروة والنفوذ بيد الفاسدين الأشرار؛ لذلك فقد أراد ذلك الرجل أن يتخلص من حياته بحرق نفسه، لكن روحه عارضته وهددته بأنها ستهجره في العالم الآخر. ولكنه أيضًا ومن خلال حواره مع روحه كان حريصًا على إرضائها وبقائها معه فأخذ يحاورها، وتحاوره وأخذت تخيره ما بين الرضا بالواقع والحياة معًا، أو الرضا بالموت والإقدام عليه. وكفت عن الحديث وامتنعت عن مناقشته. ولكن ما لبثت حتى عاود التفكير فيما دعته إليه واعتزم أن ينتقل وإياها إلى عالم الآخرة. وبدأ يستدرجها في الحديث أملاً في أن تشجعه وتساعده في اتخاذ قرار محدد. وأشهد عليها جمعًا تخيله من الناس. وتصنعت الروح الغضب مرة أخرى. وأجابته وهي تؤنبه: «الست رجلاً يافعًا عشت الحياة من قبل، فماذا حققت؟». ثم قصت له قصة رجل فقد زوجته وأولاد نتيجة إعصار ألقى بهم في بحيرة تعج بالتماسيح في سواد الليل. وهدفت الروح، من رواية هذه القصة وأخرى تلتها، أن تقنع صاحبها بأنه إذا تأمل الآخرين هانت عليه بلواه. لكنه دخل معها في جدل آخر عن قيمة الحياة التي تدعوه إلى الرضا بها بعد أن فقد فيها الكرامة والثقة والأمل في الناس ونظم إجابته من خلال أربع قصائد نثرية.
وتحدث عن الموت الذي فيه خلاصه من مأساته. وأكد على إيمانه بالحياة بعد الموت وإيمانه بالثواب والعقاب وعدل الأرباب فيها. وقال لها: «وها هو الحق.. الحق من وصل للعالم الآخر سيكون معبودًا يحيا به فيرد الشر على من أتاه. وها هو الحق من وصل هناك سيكون عالمًا بالأسرار وكل بواطن الأمور».
وهكذا انتهت البردية البليغة. فكانت أبلغ من هذا. وكان هذا اليائس يعيش في صراعه مع روحه. ومن تلك البرية يتضح أن الأسلوب السردي أو السياق والنظام العام الذي استطاع من خلاله القاص المصري القديم رسم ووضع العناصر الرئيسية للقصة، خاصة الزمان والمكان وحركة الأشخاص، مما ساعد على الحبكة الدرامية مما تحمله من تنوع في الأحداث والمواقف داخل الإطار القصصي، وحافظ على حيوية وتدفق وتتابع الحكاية.
أما عن الانتحار بالفعل، فهناك نص بردية تورين القضائية الشهيرة التي تتحدث عن مؤامرة الحريم على حياة الملك رمسيس الثالث، وانكشفت المؤامرة، وحُقق فيها بأمر من الفرعون. وحكمت المحكمة على المتهمين بأحكام تتراوح بين الإعدام والانتحار والجلد والسجن وقطع الأنف وصلم الأذن والبراءة، كل وفقًا لدوره وجريمته فى تلك المؤامرة المشينة.
تلك هي مصر الفرعونية المبهرة بثرائها الأدبي والفكري والقانوني الذي علّم الحضارات وألهم الإنسانية.