بقلم: محمد منسي قنديل
منذ ثلاثة اعوام تقريبا كانت ازمة إفطار الكاتب الكبير رشيد بوجدرة، واحد من اشهر كتال الجزائر، وهي تجسد ازمة كل كاتب له عقل متحرر في عالمنا العربي، فقد اصبح هذا العقل الذي لا يعتمد على المسلمات هدفا لرشق سهاما دامية لا يحق لأحد أن يرميها، حملة غريبة تزامنت لحصار الكاتب الذي يبلغ من العمر 76 عاما وله حوالي ثلاثين كتابا، تنوعت بين الرواية والشعر وقصص الأفلام، ويكتب باللغتين العربية والفرنسية، ويجيد ثمان لغات منها اللاتينية، وترجمت كتبه إلى العديد من اللغات، كل هذا لم يحمه من حملة السخرية والكراهية التي يتعرض لها، والتشكيك في اسلامه حتى أن أحدى الجمعيات الاسلامية قد افتت أنه لا يجوز الصلاة عليه أو غسله أو دفنه في مقابر المسلمين، صورة أخرى للمعاملة الخشنة وأسلوب التصيد الذي يتعرض له الكتاب والمفكرين في عالمنا العربي، فهم يدفعونهم دائما إلى حافة الاتهام، والسجون دائما مفتوحة لابتلاعهم، وهذا ماحدث لإسلام البحيري واحمد ناجي وغيرهم في مصر، ومما لاشك فيه أن بقية السجون العربية مليئة بهذا النوع السجناء الذين طالتهم تهمة “ التفكير”، وحمدا لله أن حالة رشيد بوجدرة لم تصل بعد لمرحلة السجن، ولكنه في مرحلة تتعرض لأكثر النقاط خصوصية في حياة أي أنسان وهي علاقته بربه.
بدا الأمر على صورة مزحة، واحد من مقالب الكاميرا الخفية التي تذاع على قناة النهار الجزائرية، استضاف المذيع الكاتب بوجدرة، ورغم أنه يبدوا عجوزا ومنهكا إلا أن الحديث بدأ من نقطة الاستفزاز، سأله المذيع لماذا تحقق كتب أحلام مستغانمي رواجا اكثر من كتبه، وقبل أن يبحث عن إجابة لهذا السؤال المحرج فوجئ بأثنين من رجال الأمن يدخلان الاستديو ويوقفان التصوير، ويطالبان الكاتب بإبراز هويته، وبأصابع مرتعده يخرج الكاتب بطاقته ، وقد افقده هذا الدخول المباغت قدرته على أي نوع من المقاومة، أو محاولة حماية نفسه، ويستمرأ الاثنان الموقف ويسلمانه هو والمذيع مذكرة أمنية تطالب بالقبض عليه بتهمة الالحاد والتخابر مع الدول الأوروبية، يرتبك الكاتب من المفاجأة، ويحاول ان ينفي التهم، موقفه من أوروبا معروف وهو مضاد لها وليس جاسوسا، وحين يحاول الضحك مخففا من التوتر يأمره أحدهم في حزم آلا يضحك، ويعود سؤاله بخشونة إن كان مسلما ويرد بوجدره أنه مسلم ونص، وإن كان لا يصلي، لا يبدو أن أحدا يصدقه، والدليل أنه لم يدخل زوجته الفرنسية إلى الإسلام حتى الآن، يطلبان منه أن يردد الشهادة فيرددها، يطلبان منه أن يعيدها ثلاث فيفعل، يطلبون ان يرفع يده بالدعاء، ويكتشف فجأة أن الجميع كانوا يكتمون ضحكاتهم بصعوبة، جميعهم يسخرون منه، وأولهم المذيع الذي يرفع للدعاء له بالهداية بينما يكتم ضحكاته بصعوبة،، لم يحترم أحد سنه ومكانته الأدبية، تعاملوا معه بشماته بعد أن اثاروا رعبه، ولم يملك إلا أن ينهض غاضبا ويغادر الاستديو مهددا أنه سوف يقاضيهم جميعا، الغريب أن أحدا لم يطلب منه الأذن بإذاعة الحلقة كما هو متعارف عليه، ومع ذلك فقد اذيعت كاملة وشاهدها الجميع.
هذه النوعية من المقالب أصبحت أحد المعالم السادية من شهر رمضان، حيث ينفس المشاهدين عن أنفسهم من جراء الصوم وارتفاع الأسعار واستشعار الفساد بمشاهدة المشاهير وهم يقعون ضحية لهذه المقالب، وسواء كانت حقيقية أو مفبركة فهي تغذي مشاعر الشماتة في داخلهم، فالمواطن العادي يشعر طوال العام أنه ضحية، لذا يسعده أن يجد وقوع ضحية أخرى مشهورة بدلا منه، وما جعل المقلب ساخنا في حالة بوجدرة أن قضية الحاده كانت مطروحة على المحك، وكان خوفه حقيقيا وهو يواجه رجال الشرطة المزيفين، كانا تجسيدا لكل ماكبته من مخاوف وهي أن تنحاز السلطة لجانب الذين يناؤونه وتقرر معاقبته، فالجرائم الفكرية، إن كانت تعد جرائم، هي غامضة وغير يقينية وتستخدمها السلطات دائما للترهيب.
بوجدرة كان عضوا بالحزب الشيوعي الجزائري، ويفاخر بلقب “الشيوعي الأوحد” في هذا البلد، فكان من الطبيعي ان تلتصق به تهمة الالحاد بشكل آلي، وزادت حدة الهجوم بعد أن اجرى مقابلة تلفزيونية مع قناة الشروق في الجزائر في برنامج المحاكمة، وسار البرنامج منذ البداية في مسار خاطئ، فقد رفض بوجدرة أن يقوم بالقسم المعتاد في المحاكمات وفضل ان يحلف بقبر امه التي لم يزره في حياته، وبدلا ان تسأله المذيعة عن أدبه أو عن اراءه الثقافية او السياسية فوجئ أن السؤال: هل هو ملحد؟، وحاول ان يزوغ بالقول أن هذا أمر خاص به، فالدين هو علاقة خاصة بين الانسان وربه، ولكن هذا جعل الحوار يدور في جو مكهرب على حد تعبيره، والمذيعة لاتني تلف وتدور وتعود للسؤال ذاته، يتخلل ذلك انقطاع التصوير والشجار بين التقنيين بحيث استغرق تسجيل البرنامج الذي لاتزيد مدته عن ساعة واحدة امتد إلى اربع ساعات، وعندما عاد سؤال الالحاد من جديد رد الكاتب غاضبا ومازحا في الوقت نفسه أنه ملحد ولا يؤمن بالقرآن، وإن كان يرى أن النبي محمد هو شخصية ثورية عظيمة، هكذا انطلق السهم، في لحظة من التعب والغضب صرح بأمر بالغ الخصوصية لغير ذي صلة، تعبير مركب ولكنه يدل على واقع الحال، حاول بوجدرة تدارك الأمر ليؤكد أنه لم يكن يقصد ما قاله حرفيا، وطلب من المذيعة أن تحذف المقطع بأكمله في المونتاج، ووعدته أن تقوم بذلك، وأنها لن تذيع الحلقة قبل أن تحصل على موافقته، لكنها لم تفعل ولم تتصل به، وحين حاول الاتصال بها لم ترد عليه، واستغل القائمون على البرنامج هذا المقطع بالذات للإعلان عن هذه الحلقة، استدارت حلقة الالحاد الجهنمية حول عنقه، وعبثا حاول أن يفلت منها، ادلى بأكثر من حديث صحفي، اعلن فيها أنه مسلم وإنه ينتمي لأجيال من المتصوفة على رأسهم ابن باديس، المجاهد الجزائري الكبير، ونفى ان يكون قد حاول إهانة حضارة نشأ في ظلها وعاش بين أهلها، ولكن من قرأ ليس كمن رأى، كانت الصورة طاغية على حواس الجميع، وانطبع مشهده على الشاشة في ذهن الشارع الغاضب، وعندما وافق للمرة الثانية على أن يظهر في برامج تلفزيوني كان يأمل في فرصة أخيرة يتمكن فيها من الدفاع عن نفسه، ولكن هذا المقلب الجارح كان في انتظاره.
هذا هو نصيب الكاتب من الحرية في عالمنا العربي، التفتيش في اعماقه، والقاء شباك الدين حوله لاصطياده، لقد تضامن كثير من الادباء الجزائريين والعرب مع رشيد بوجدرة، دافعوا عن حريته وحقه في الاعتقاد، ورفضوا محاولة التفتيش في اعماقه وارهابه، ومازال الكاتب مدان دائما مهما فعل ومهما اعتقد.