بقلم: د. خالد التوزاني
رتبطت حياة المتصوفة بكرامات الأولياء، وتجاوزت زمن حياتهم إلى أزمنة ما بعد مماتهم، حيث تُظهر بعض الكتابات المنقبية، باعتبارها نوعاً من السِّجلات التاريخية التي تؤرخ لحياة الولي، فتركز على مجاهداته وتذكر بعض كراماته التي أدخلته في زمرة الصلحاء من القوم، كما تُظهر استمرار الكرامة بعد التحاق الولي بالرفيق الأعلى، إلى درجة تصبح فيها الكرامات بعد الممات أمراً مألوفاً، ما دام أن هذه الكتب تجمع بين الواقع والممكن، حيث الكرامات الواقعة زمن حياة الشيخ الولي وإمكان وقوع كرامات جديدة متوقعة في كل لحظة.
من أكثر الكرامات تداولاً بين المتصوفة هي ما يُسمى بالكشف أو المشاهدة، التي تعد خرقا للمألوف من أشكال تلقي المعرفة والعلوم، فالمكاشفة علم زائد على ما عند الفقهاء والمحدثين والعقلانيين عموما، لا يرتبط بالمألوف من كسب العلم بالحفظ والفهم والتلقين، وإنما يعتبرها الصوفية هبة من الله، يمن بها على من يشاء من عباده، ومع أن هذا العلم يعد مصدرا للحيرة والدهشة، إلا أن القوم يجدون له سندا في القرآن الكريم، في قصة نبي الله موسى عليه السلام مع الخضر، حيث يقول رب العزة: ﴿ فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً ﴾ ، ولذلك، سمى الصوفية علم المكاشفة بـ”العلم اللدني”.
يميز الصوفية بين الوحي الخاص بالأنبياء، والإلهام الذي يزين الأولياء، حيث يختلف العلم الناتج عن كل واحد منهما، كما يقول الغزالي: “والعلم الحاصل عن الوحي يسمى علما نبويا، والذي يحصل عن الإلهام يسمى علما لدنيا، والعلم اللدني هو الذي لا واسطة في حصوله بين النفس وبين الباري..، فالوحي حلية الأنبياء والإلهام زينة الأولياء”، والصوفية “لهم الفراسة والإلهام والصديقية”، و”أوضَحُ علاماتهم ما ينطقون به من العلم من أصوله”، واللافت للانتباه أنَّ الحقل المعجمي الدال على الكشف والمشاهدة من أغنى الحقول الدلالية في الأدبيات الصوفية، حيث يضم جملة واسعة من الألفاظ والمصطلحات، من قبيل: الفيض والكشف والموهبة والخواطر والواردات، واللوائح واللوامع والطوالع، والأنوار والأسرار والتجليات، والبوادِه والهجوم، وغير ذلك ، و”التي تفاجئ العباد والزهاد من مطالعات أنوار عجائب الملكوت” ، حيث تهجم على المرء فلا يستطيع لها دفعا، يقول عبد الكريم الجيلي: “فإن مكالمات الحق تعالى لعباده وإخباراته مقبولة بالخاصية لا يمكن لمخلوق دفعها أبدا”.
اتسم تعامل الصوفية مع الكرامات بنوع من الذكاء، حيث أقروا بإمكانية حدوث الكرامات لمن استقام على الطريقة؛ حيث “الاستقامة توجب دوام الكرامات” ، مصداقاً لقول الله تعالى: ﴿ وَأَن لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً﴾ . وفي الآن ذاته، أكد المتصوفة على أن وقوع الكرامات للمتصوف، ليس دليلا على الاستقامة، فخرق العادة الظاهرة ليس شرطا لإثبات الولاية، و “لو لم يكن للولي كرامة ظاهرة عليه في الدنيا، لم يقدح عدمها في كونه وليا” ، ويستشف من ذلك، تفضيل الاستقامة على الكرامة، على الرغم من اشتراكهما في خرق العادة، إذ “أكبر الكرامات أن تبدل خلقا مذموما من أخلاقك..” ، ومن مَكّنه الله من مخالفة هواه، فهو أعظم من المشي على الماء، وفي الهواء” ، مما يدل على أن الصوفي يؤسس للكرامات وفي الآن ذاته ينفي ضرورتها، إذ ليس هناك ما هو أعجب من خرق مألوف النفس وقيادتها إلى الحق، وبهذا المعنى نفهم لماذا حرص الصوفية على إخفاء كراماتهم وعدم الانشغال بها.
ما الفرق بين المعجزة والكرامة ؟
من الأكيد أن الكرامة والمعجزة تلتقيان في بعض الحِكَم والمقاصد، إِلا أن الفارق بينهما يكمن في أن المعجزة لا تكون إلا للأنبياء عليهم السلام، لاقترانها بدعوة النبوة، والكرامة لا تكون إلا للأولياء، وكل كرامة لولي معجزة لنبي، إلا “أن الأنبياء عليهم السلام مأمورون بإظهارها، والولي يجب عليه سترها وإخفاؤها”، فالمعجزة أو الكرامة، تحيل على كل ما يعجز المتلقي عن استيعابه، وما يتعذر عليه تفسيره أو فعله، فـ”المعجز ما يكون خارجا عن طوق المخلوق” ، مثل “الإسراء والمعراج، وانشقاق القمر، وانفلاق البحر، وانقلاب العصا ثعبانا..” ، وهذه الأمور وإن بدت خارقة للعادة، إلا أنها إذا ارتبطت بنبي كانت معجزة من أجل إثبات النبوة والتحدي، بينما الخارق لا يقارن به ، فإن وقع بعضها للصوفية فهو من باب الكرامة.
شكلت قصص الأنبياء والرسل والصحابة مصدر إلهام للصوفية، حيث مثلت بالنسبة إليهم نماذج من الكمال الإنساني الذي يصلح للاقتداء به واقتفاء أثره، فهي للأنبياء تثبيتا على الحق وتأكيدا لاصطفائهم وإفحاما لخصوم الرسالة، أما الصوفية فقد سعوا إلى ذكر الله، ليس طمعا في حصول الخوارق، وإنما تأتي الكرامات تقع في لحظات الشدة والضيق، كنوع من العون الإلهي والمدد الرباني لبعض أوليائه، فلم تكن الكرامات مطلوبة ولا ينبغي أن تُطلب، وإنما الانشغال بالواجب من أمور التصفية والتحلية مقدم على غيره من أعمال التزكية والمجاهدة.
يتحدث الصوفية عن بعض الإجراءات التي يمكن أن تساعد السالك على خرق عوائد نفسه، ومنها على سبيل المثال: المجاهدة التي ترمي إلى “فطم النفس عن مألوفاتها وحملها على مخالفة أهوائها” ، وقمع شهواتها، يقول ابن عجيبة: إن “الخروج عن العادات وترك الأمور المألوفات كلاهما شاق على النفوس إلا على الذين هدى الله، ولذلك كان خرق العوائد هو الفاصل بين الخصوص والعموم”، وقد يصبح “خرق العوائد” عادة، وتصبح الكرامة للولي شيئا مألوفا، وكُتُب المتصوفة تحفل بالكرامات العجيبة، إلى درجة يمكن اعتبارها منهجا في الكتابة والتأليف، فكتاب لم يذكر كرامة لا يستحق أن يُقرأ، وخاصة الكتب التي اهتمت بذكر مناقب الشيوخ مثل كتاب: المعزى في مناقب الشيخ أبي يعزى، وكتاب: دعامة اليقين في زعامة المتقين وغيرهما.
لما كانت الكرامات عند المتصوفة، تستقطب أنظار الناس وتستحوذ على عقولهم، فقد كانت موضوعا مغريا للكثيرين، بعضهم ادعى حصوله على كرامة معينة، وكثُرَ المُدّعون، واختلط الحق بالباطل، فتشابهت الكرامات، وارتمت في أحضان الخرافة، وهذا يعني أن الكرامة اليوم ينبغي أن تُدرس علميا بالاستعانة بالعلوم الحديثة في الاجتماع والنفس والباراسيكولوجيا، وغيرها من الحقول المعرفية التي تروم فهم الإنسان، ولا نكتفي في دراستها على ما نسمعه أو نجده مدوناً في كثير من كتب التراجم والمناقب وكرامات الأولياء، ففي عصرنا استطاعت التكنولوجيا أن تأتي بما هو أكثر غرابة من تلك الكرامات، في حين تظل بعض الظواهر الإنسانية والطبيعية تغوص في المجهول ولا يدرك الإنسان كيفية عملها وتأثيرها، الشيء الذي يفرض ضرورة الإيمان إلى جانب الفهم ليطمئن القلب ويستقر العقل، ودون الوقوع في بئر الخرافة.