بقلم: د. خالد التوزاني
عندما يقرّر الباحث المنصف أو المثقف الوفي لجهود أسلافه وأساتذته، أن يكتب عن واحد من هؤلاء الرّواد الكبار الذين تركوا في نفسه أثراً عميقاً، ونحتوا في وجدانه ذِكراً حَسناً لما بذلوه من عطاء لا ينضب، فإنَّ هيبة هؤلاء العمالقة وقُدسية حضورهم في ذاكرة الباحث تجعل مهمة الكتابة صعبة جداً إنْ لم تكن مستحيلة، وترتعش الأنامل خوف أن تكتب ما لا يليق، أو لا يكون على قدر مقام هؤلاء الذين لا يستطيع المرء إيفاءَهم حقّهم ولو ظَلَّ يكتب طول عمره معاني الوفاء والامتنان ما نفذت كلمات الشكر في حقهم، إذ كيف يردّ الإنسان جميل مَنْ جعله الله سبباً في هدايته لسُبل العِلم وإشراقة المعرفة؟، إنَّ رجالاً في حياة المثقف؛ قناديل نور في طريقه، لا يستطيع رد جميلهم أبداً، ويقتضي الوفاء ردّ الجميل، بكل الوسائل الممكنة والمتاحة، وأقلّها الدعاء، وإنَّ واحداً من هؤلاء، ممن أذكرهم ولا أنسى فضلهم أبداً، وقد بصم حياتي العلمية بصماتٍ واضحة، ورسمت محاضراته سُلّماً للارتقاء في مدارج التمكين العلمي، فكراً ومنهجاً، أستحضر العلامة الدكتور مولاي عبد الله بنصر العلوي، وأخصص لحضرته هذا المقال.
من العسير عليّ في مقال واحد أن أرصد كل الجوانب الفكرية والنقدية التي ميّزت الشخصية العلمية للأستاذ الدكتور عبد الله بنصر العلوي، انطلاقا من قراءة فاحصة تشمل جل كتاباته المتعددة المناهل والمختلفة المشارب، ففضلا عن غزارتها وغناها وأصالتها، تنحو بك فضاءات فكره وإبداعه المنهجي نحو عالم رحب وفسيح، يصعب رسم حدوده أو تلمس معالم انشغالاته العلمية المتعددة، فقد جمع بين فنون جمة؛ حيث برز في الأدب المغربي والأدب الأندلسي كما أبدع في مقاربة الأدب المشرقي من خلال اهتمامه بتواصلات النص الأدبي بين المغرب والمشرق، إلى جانب مسؤولياته الثقافية وخبراته الطويلة في التدريس الجامعي، ليشكل بهذه السيرة الحافلة بالمنجزات معلمة عربية وجامعة متحركة وأيقونة أدبية وفكرية يفخر بها المغرب والعالم العربي.
إن محاولة الكشف عن جهود الدكتور عبد الله بنصر العلوي الفكرية والنقدية باعتباره قامة علمية مشاركة في مختلف فنون الفكر والإبداع والنقد، ولمدة تقترب من الأربعين عاما حافلا بالعطاء العلمي وبالمنجزات الأكاديمية، يقتضي من أجل رصده إلى فريق كبير من الدارسين، وربما يستدعي إقامة ندوات، وإنشاء مؤسسات، وليس كتابة مقال أو تأليف كتاب، وبما أن ما لا يدرك كله لا يترك جله، فقد ارتأيتُ في هذه الورقة تسليط جزء من الضوء على جوانب من العطاء العلمي والإبداع المنهجي للأستاذ الدكتور عبد الله بنصر العلوي.
ومن أهم الانشغالات البحثية للدكتور عبد الله بنصر العلوي، وعلى امتداد عقدين من الزمان، قضية التواصل الثقافي بين الباحثين في دولة الإمارات والمملكة المغربية، فقد كَتَب في هذا المجال عدداً مهماً من الكتب والمؤلفات، لعل من بينها كتاب: «الفاعلية الأكاديمية في الحضور الثقافي بين المملكة المغربية ودولة الإمارات العربية المتحدة: مجموعة البحث في الإبداع والدراسات المغربية الإماراتية نموذجا»، حاول فيه مقاربة مظاهر هذا الحضور الثقافي المغربي – الإماراتي، ومركّزا فيه على نشاط الباحثين الأكاديميين المغاربة في تحقيق هذا التواصل والتكامل وتعزيزه واستمراره، وذلك من خلال رصد بعض تجلياته؛ كمشاركة الأدباء والشعراء المغاربة في عدد من اللقاءات والندوات، وكذا إسهامهم في المجلات الإماراتية، بالإضافة إلى الزيارات المتبادلة بين المؤسسات الثقافية المغربية والإماراتية في شؤون الأدب والنقد والإبداع والتاريخ والحضارة والاجتماع والمواضيع الاستراتيجية والعلمية، ولأهمية المنجز الثقافي لمجموعة البحث في الإبداع والدراسات المغربية الإماراتية التي أسسها الدكتور عبد الله بنصر العلوي، فقد ارتأى تأليف هذا الكتاب لتقديم قراءة تحليلية لمضامين أنشطة هذه المجموعة وتوثيق إسهاماتها وعرض مشاريعها المستقبلية.
وقد صدر كتاب «الفاعلية الأكاديمية في الحضور الثقافي بين المملكة المغربية ودولة الإمارات العربية المتحدة: مجموعة البحث في الإبداع والدراسات المغربية الإماراتية نموذجا»، في طبعته الأولى سنة 2014، عن منشورات مجموعة البحث في الإبداع والدراسات المغربية الإماراتية، التابعة للمركز الأكاديمي للثقافة والدراسات المغاربية والشرق أوسطية والخليجية، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز، بفاس.
يتناول كتاب «الفاعلية الأكاديمية في الحضور الثقافي بين المملكة المغربية ودولة الإمارات العربية المتحدة» إسهام مجموعة البحث في الإبداع والدراسات المغربية الإماراتية ورصد إنجازاتها خلال الفترة الممتدة من سنة 1998 تاريخ تأسيسها إلى عام 2014، حيث راكمت هذه المجموعة تجربة هامة في التعاون العلمي والتواصل الثقافي بين المملكة المغربية ودولة الإمارات، يحاول الكتاب الكشف عن مظاهره واستشراف بعض آفاقه، وخاصة الجهود العلمية المتميزة للمجموعة في التعريف بالأدبية الإماراتية، وقد تفضّل الدكتور مانع سعيد العتيبة بطبع جملة من مؤلفات المجموعة على نفقته الخاصة.
من أهم التطلعات المستقبلية المرتقب إنجازها، يقترح الدكتور عبد الله بنصر العلوي في هذا الإصدار جملة من مشاريع مجموعة البحث في الإبداع والدراسات المغربية الإماراتية، وعلى رأسها الآتي:
- مشروع ندوة حول الاستثمار الثقافي – الاقتصادي العربي، والمطالبة بإحداث مجالات الاستثمار في القطاع الثقافي، وتمكين بعض العائد من أرباح الاستثمار الاقتصادي في خدمة الثقافة العربية وتشييد بنياتها الأساسية.
- السعي إلى تأسيس مكتبة إماراتية موسعة بمدينة فاس، توفر للباحثين كل ما يساعدهم في أبحاثهم المتعلقة بالثقافة الإماراتية من كتب ومجلات ومراجع معرفية ومنشورات، وأنظمة إعلامية معاصرة للتوثيق والاتصال.
- عقد شراكات ثقافية بين مجموعة البحث في الإبداع والدراسات المغربية الإماراتية وأخرى مماثلة لها وبين المؤسسات الثقافية والإماراتية قصد تحقيق المزيد من التواصل من أجل: تعزيز دينامية التواصل الثقافي بين المغرب والإمارات بإنشاء شبكة معلوماتية ثقافية متخصصة، وإغناء الأدبية العربية لتستوعب معالم التواصل في تفاعل المقومات، والتوسع في الدرس الأكاديمي الجامعي ليشمل الثقافة العربية في المغرب والإمارات، كإحداث كرسي للأدبيات الإماراتية في بعض الجامعات المغربية، وكرسي آخر للأدبيات المغربية في بعض الجامعات الإماراتية، إضافة إلى عقد ندوات أكاديمية تتعلق بالأجناس الأدبية والفنية ودراسة الشخصيات الأدبية الفاعلة في المشهد الثقافي المغربي – الإماراتي، وأخيرا تقديم شهادات تقديرية تكريما للشخصيات الأدبية الفاعلة في ثقافة البلدين، واعتبارها من الأعضاء الشرفيين المنتمين لمجموعة البحث.
ضم هذا الكتاب مجموعة من الصور التي تؤرخ لأبرز التظاهرات الثقافية المشتركة بين المملكة المغربية ودولة الإمارات، والتي شاركت فيها مجموعة البحث في الإبداع والدراسات المغربية الإماراتية، إضافة إلى ملحق ضم جملة من الوثائق القانونية والتنظيمية المؤطرة لعمل هذه المجموعة البحثية، وكذا مشاريعها الثقافية المستقبلية.
يأتي كتاب «الفاعلية الأكاديمية في الحضور الثقافي بين المملكة المغربية ودولة الإمارات العربية المتحدة» ليعزز سلسلة الإصدارات الجديدة التي دشنها الدكتور عبد الله بنصر العلوي خلال سنة 2014، والتي سلّطت الضوء على جوانب من الإبداع الأدبي في دولة الإمارات، وهي السلسلة الموسومة بـــ «في صحبة الأدبية الإماراتية»، وتعتبر هذه السلسة حصيلة صحبته الطويلة للمنجز الإبداعي الأدبي في هذا البلد العربي المعطاء على مستوى الثقافة وخدمة الفكر العربي.
من الواضح أن الحركة الأدبية في دولة الإمارات العربية المتحدة قد حققت تراكما مهما على مستوى النصوص الإبداعية والدراسات النقدية، ولعل من أبرز ما يميّز هذه الحركة هو حرصها على التعاون وفتح الأوراش التواصلية الثقافية والاقتصادية سواء داخل الإمارات أو في سائر الوطن العربي وباقي أقطار العالم، مما جعلها حركة أدبية رائدة ونموذجا حضاريا وإنسانيا جديرا بالاهتمام، فقد كانت الطاقات الإبداعية في دولة الإمارات فاعلة ومستنيرة في التوجه الثقافي العام الذي طبع الحركة الأدبية والنهضة العلمية في الإمارات، وهي الحركة التي تفاعل معها الأدباء العرب وخاصة المغاربة الذين لهم عشق خاص بالأدب الإماراتي متجليا هذا العشق في أعمال الفريق العلمي لمجموعة البحث في الإبداع والدراسات المغربية الإماراتية، وفي ذلك تواصل مثمر وفعّال بين الأدباء مبدعين وباحثين.
هكذا، حاولنا في هذه الورقة الكشف عن بعض جهود أستاذنا العلامة الدكتور عبد الله بنصر العلوي النقدية، وقد تعلق الأمر بكتابه: «الفاعلية الأكاديمية في الحضور الثقافي بين المملكة المغربية ودولة الإمارات العربية المتحدة: مجموعة البحث في الإبداع والدراسات المغربية الإماراتية نموذجا»، حيث وقفنا على محتوى هذا العمل الأكاديمي، وما تميّز به من سمات التواصل الثقافي بين المغرب والإمارات، إلى جانب السمات المنهجية والفكرية التي ميّزت الشخصية العلمية لمؤلف الكتاب الدكتور عبد الله بنصر العلوي، وخاصة جانب الشمولية وسعة الاطلاع التي طبعت فكره، وسعيه المستمر نحو ترسيخ قاعدة التواصل مع النصوص وفق استراتيجية جماليات التلقي وأخلاقيات الوفاء، وما ذلك إلا نقطة من بحر شخصية فكرية رائدة، تستحق كل الثناء والمجد، وتظل أعمالها العلمية الجليلة، وفية لروح البحث العلمي في صفائه وسموّه، ويبقى اسمه مفخرة لكل المثقفين عبر العالم العربي والإسلامي.