بقلم: إدوار ثابت
الجزء الثاني
كان منذ صغره يحب الأسكندرية ويحب ان يذهب إليها في الصيف بل في كل وقت يرغب فيه الذهاب إليها وفي يوم يستقل قطار الديزل فيجلس بعربة القطار المتجه إلى الإسكندرية إلى جانب فتاة في منتصف العمر وما أن يتحرك القطار حتى يتحدثان فينجذب إليها ويتعارفان فتدعوه إلى بيتها. ينطلق بسيارته بحي شبرا ، وينحرف إلى شارع خلوصي ، يبحث عن الشارع الذي قالت له عن عنوانه وعن البييت الذي تسكن به ، فما أن يسير قليلاً حتى يلمح الشارع ثم يرى البيت ، فيوقف سيارته إلى جانبه ، ويتطلع إلى الطابق الثالث كما أخبرته ، ويطرق الباب فتفتح له فتاة شابة، يحييها فتحييه ، وقبل أن يستفسر منها عنها ، تقبل هي من حجرة بالبيت ، تنظر فتراه ، فتبتسم له باشة فرحة ، وتدعوه بالتفضل وترحب به فتعرفه على أختها الصغيرة التي فتحت له الباب ثم يعرف بعد أيام من ذهابه إلى البيت أن لها أخوة وأخوات هذه الأخت ، لم يرهم كثيراً ، فمنهم من له زوجة يعيش معها ، ومنهم من لا يقطن بالبيت ، دائماً يحضر إليه بين الحين والحين ، وفتاة ثانية مخطوبة إلى خطيب ، يقبل إلى البيت في أوقات مختلفة ليراها ، فينزويان في حجرة من حجراته ، يتحدثان في صمت لا يسمع منه شيئاً . ويعرف بعدها أن أختها الصغيرة قد أنهت دراستها ، وأخذت تبحث عن عمل بمجالات مختلفة ، فتعمل تارة ، وتتوقف تارة ثانية ، أما هي فتعمل بشركة من شركات السياحة، ولهذا تأخرت دراستها بكلية الآداب ، فهي تنتسب إليها ، ولا تحضر الدروس بالكلية ، وإنما تقرأ ما عليها من الكتب ، ولاتذهب إليها إلا في أوقات الأمتحانات .
ويتكرر ذهابه إلى بيتها ، فتتوطد العلاقة بينهما ، فكان لا يبخل عليها بشئ ، ويحقق لها بقدر ما يستطيع ما تحتاج إليه ، ويأخذها بسيارته إلى أي مكان ترغب في أن تذهب إليه . وفي يوم من الأيام ، كانت معه فبدا عليها بعض الضيق والأسى ، فيسألها عنهما وعما يبررهما ، فلم توضح له غير أن المبرر لهما هي المشاكل العامة ، فيرغب في ان يرفه عنها فيستأذنها في أن يصحبها يوماً إلى مكان خلوي ، يقضيان به وقتاً لعله يخفف عنها ما تشعر به من ضيق ، فلم تمتنع فيأخذها بسيارته إلى القناطر الخيرية ، فيلوح على وجهها وحركاتها ما يوحي بالأمس والأطمئنان ، فيشعر منها بالسعادة وبالحنو عليها . وهناك يمضيان جزءاً من النهار ، يتحدثان حديثاً رقيقاً ، يتنزهان به بأنحاء المكان ، فيسيران بمحازاة انهر ينظران إلى القناطر الممتدة بعرضه ، ويتطلعان إلى النباتات والأشجار . ويجلسان فيفترشان العشب الأخضر ، وقد معه بعض الأطعمة ، يأكلان منها في شهية وتلذذ ، وإذا هي في جلستها قد أسندت ظهرها ورأسها إلى نخلة من النخيل ، وبسطت ساقيها أمامها وتنهدت وكأنما تزيل أو تقاوم ما تشعر به من أسى ، فينظر إلى عينيها وقد جلس يواجهها ، فتبتسم له أبتسامة هادئة ، فيبادلها بمثلها ، فتغمض عينيها في هدوء ورقة . ويسألها عن إحساسها بتلك النزهة ، فتبدي له سعادتها بها ، ثم يسألها عما يؤرقها ، فلم تقل له مبرره ، ولكنها تفصح له عن أحتياجها إلى إنسان مخلص يكون إلى جانبها ، فقلما ترى الإخلاص في إنسان ‘ فيثير فيه حديثها وهيأتها نزعة العطاء التي جذبته بها إليها . وينتهي النهار ، فإذا هي قد مست قلبه بإحساس أخذ يتسلل إليه ، لم يعرف إن كان عطاءً أم حنواً ، أم حباً ، أم رغبة في أرتباط . ولكنه بعد أيام يشعر بالأشتياق إلى رؤيتها ، أشتياقاً ملك على قلبه ، وسيطر على كيانه ، ويشعر منه بالحنين إلى التحدث إليها وبالسعادة وهو معها ، من غير أن يتأكد أو يعرف ما بنفسها ، وهل هي تشعر بمثل هذه الأحساسيس ، أم هي لا يمسها شئ منها . لم يصارحها بما في نفسه فكتم عنها ما بها ، ولكنها أوحت له بالشعر ، فظل في تلك الفترة لا يكتب القصائد إلا عنها وعن فتنتها وجمالها اللذين يأسرانه ، والا لها يبثها فيها ما يشعر به نحوها ، وما تثيره فيه من الرغبة والأشتياق ، والوصل والحرمان . وكان يكتب القصائد في دفتر صغير ، يريه لها ، فتقرأ القصيدة منها وهي تنظر إليه أثناء قرأتها تبتسم له في حنو يثير فيه البهجة والإيقاع معاً فما أن تقرأها حتى تستأذنه في أن يترك لها الدفتر حتى تقرأ القصيدة مرة ثانية عندما تنصرف إلى نفسها ، فلم يمتنع بل كان يبتهج له فهي ستقرأ مشاعره وتستزيدها ، فيعطيها الدفتر فتضعه في صوان بحجرة من حجرات البيت سعيدة باشة . لم يصارحها في حديث بينهما عن حبه ، فقد كان لا يزال يخجل من ذلك ، ولم يلحظ منها تشجيعاً له إلا سعادتها بقراءة شعره ، أو لعلها تخجل مثله من الأفصاح أو البوح ، فترك لها القصائد هي التي تفصح لها عما يثور في نفسه ، وقد تشجعها فتزيل عنها ما يمنعها عن المصارحة والأقدام ، ولكنها تقول له يوماً جملة لم ينسها قط ، بل رأى فيها أو أعتقد منها شيئاً يشبه هذا أو يؤكده ، فقد قالت له في حنو :
أن كل حب لا بد وأن يكون له صدى .
أما أختها ، فكانت على عكس منها ، كثيرة المزاح ، وكان مزاحها ثقيلاً عليه، لا يستسيغه، بل كثيراً ما ينفر منه ، تستأذنه أحياناً في أن يأخذها بسيارته لشراء شئ ترغب فيه ، فتحثه هي على أن يأخذها إليه ، فليحظ بعده أن ما ترغب فيه ليس شراء ، ولكنه أفتعال ، تسعى إليه حتى تتنزه معه بسيارته .
وكانت من ناحية ثانية ، غالباً ما تتلصص عليهما إذا تحدثا معاً ، وتحاول أن تسمع ما يهمس به إليها ، وما تهمس إليه ، تنزوي في ركن من أركان البيت تنصت إلى ما يقولان ، فيبدو عليها الترقب والأستفسار ، أو بعض الضيق ، تحجبه بمزاحها وتهكمها – أما هي فكانت إذا ما قال لها مدحاً أو غزلاً ، لا يهمها في أن تسمع أختها ، ولا تراعي إن ترقبت أو استفسرت ، أو شعرت بالضيق ، فحجبته بالمزاح والتهكم . وكان يوم أستأذنته هي في أن يأخذها بسيارته إلى صديق ، أو قريب من أقرباء العائلة ، بينهما أرتباط مالي ، ترغب في أن تتأكد من حسابه ، ولن تظل وقتاً كثيراً ، لأن عليها أن تذهب بعده إلى عملها بشركة السياحة التي تعمل بها ، فلم يمتنع ، ولم يستفسر عن نمط الحساب ، أو عن تلك الرابطة المالية التي بينهما ، فتخبره بمكانه وعنوانه ، فإذا هو بشارع طوسون الذي لا يبعد كثيراً عن بيتها ، فيتجه بسيارته إلى الشارع ، وينحرف إليه ، فتشير له إلى البيت ، فيوقف سيارته إلى جانبه ، وتنزل منها ، فتسأله في أن يأتي معها ، فيبدو عليه شئ من التأرجح ولكنها تحثه في إصرار … ويستقبلهما ذلك القريب ، فتعرفه به ، فيرحب بتفضله ، فيجلس على مقعد من مقاعد الصالة ، لايهتم بما يقولون ، فقد كان حديثهما مقتضباً لا يزيد عن أرقام مالية يتبادلانها فيما بينهما ، لم يفهم منها شيئاً ، ترغب بعده في أن تنصرف فينتصب من مقعده ، فيحثهما الرجل بلا رغبة قوية على أن ينتظرا حتى يحتسيا شيئاً من الشراب ولكنها تمتنع ويمتنع مثلها ، فيصر على أن ينزل معهما إلى الشارع . ويفتح لها باب سيارته ، فتنزلق إليها وكأنما تتبختر ، ويستدير فيجلس على مقعده ، فتربت على كتفه ، تحثه على القيادة في لفظ متصنع، لا يخلو من دلال ، ثم تشير إلى الرجل بالتحية، ويفعل مثلها ، فيحييهما الرجل وقد بدت على وجهه غيرة ، ابتسم معها حتى يخفيها . لاحظ أن أختها ترغب في أن تتنزه معه بسيارته بعدما قالت لها : لقد نسينا طعام العصافير . فتقول هي فيما يشبه التأكيد : مازال هناك الكثير !!
- لايكفى
-هل هل أنتٍ متأكدة ؟ - نعم .. أأذهب إلى شرائه ؟
- الآن ! – نعم وتتأفف ، ويبدو عليها الضيق ، وكأنما أحست بما يثقل عليها . ويستمع إليهما في شئ من الدهشة ، فيسألهما : – ما هذا ؟ أعنديكم عصافير ؟ فتقول له هي : ليست لنا ، وإنما هي لصديقة ، سافرت ، وطلبت إلينا أن نتجه كل فترة إلى شقتها لاطعام عصافيرها التي تركتها بها . وتستأذنه في أن يأخذها إلى شرائه ، فتدنو إلى حجرة من حجرات البيت ، وتقبل فتعطي لأختها مفتاحاً صغيراً ، وبعض النقود فما أن تأخذهما منها حتى تقول لها محذرة – وأحرصي على المفتاح ، لا تضيعيه . وينطلق بسيارته ، والفتاة إلى جانبه ، فتبدو عليها غبطة أثارت فيها المرح ، ويتجه كما أخبرته إلى وسط البلد ، فتشتري حبوباً ، ثم تقبل إليه باشة فرحة ، فيقود سيارته بمحازاة نهر النيل فإذا هي تسأله في تدلل
– ألا تدعوني إلى شئ ، فأنا عطشى - أين ؟
- هنا ، وتشير إلى كشك ، يستقر على الطوار أمام النيل ، فيتوقف بسيارته إلى جانبه ، وينزلان ، فيشتري زجاجتين من شراب مثلج ، يحتسيان منهما ، وهما يتحركان في مكانهما ، فتتقدم الفتاة إلى سور النيل ، وتستند إليه ، وتنظر إلى النهير في أستمتاع لا يخلو من أرتباك ، ولكنها تلتفت ، فإذا فتي وفتاة يمران إلى جانبهما وقد تشابكت يداهما فتنظر إليه وتقول : – شكلنا كالعشاق . فيبتسم في لامبالاة ، وتقول له في جرأة وحنو أستمدتهما فجأة ، وهي تتطلع إلى صفحة النيل تتحاشى به النظر إليه . ثم تقول له لو نحن هكذا أم لا ، فأنا أشعر بالسعادة وأنا معك . فيشكرها في هدوء ، فتقول له في تهكم غلفته بالمزاح – ما هذا الشكر الذي ليس له طعم ؟! فيحاول أن ينهي الحديث بينهما فيحثها على الأنصراف – هيا حى لا نتأخر ويتجه إلى السيارة ، ويأخذها إلى بيت الصديقة حتى تضع الطعام للعصافير فإذا البيت من طابق فقط ، له باب صغير ما أن تدنو منه حتى تمتنع وتقبل إليه وتفصح له عن قلقها من ألا تعرف كيف تنظم هذه الحبوب ففضلت أن تترك الأمر لها ثم يأخذها إلى البيت ، فيتجول ببصره في أنحاء الشقة فلم يرها ن فتسأل الفتاة أختها المخطوبة عنها فتقول لها : لقد ذهبت إلى العمل ، فعندها فترة مسائية .
يمر شهران على حضوره إلى بيتها ، ولم يفصح لها في صراحة عن حبه ، وعن نيته في أرتباط يقرب ما بينهما ، وإذا هو يشعر بالأشتياق إليها ، وبرغبة في أن يبثها ما يشعر به ، فيجلس أماما يوماً ، ويمد ذراعه نحوها ، فيمسك يدها حتى يمهد لنفسه ما يبتغيه ، فتجذب يدها من يده في فزع وكأنما قد شكها شئ ، فينظر إليها ، فتنأى بوجهها في هدوء عنه ، تتحاشى به النظر إليه ، فيمتنع عن التحدث إليها وقد لاح عليه ما ينم عن ضيقه ، وتلمحهما أختها ، وتتفحص حركتهما ، فيظل قليلاً في صمت ثم ينصرف غاضباً .
ويتساءل: ما هذا الذي فعلته ، وما ذلك الفزع الذي مسها عندما أمسك يدها هي من غير شك لا تشعر بما يشعر به من حب نحوها ن ولكنه يصرف شكه بأن هناك ما منعها عن الإفصاح ولكنه لا يقتنع لم ينتظر، فيقبل في اليوم التالي إلى البيت ، فيدنو منها ويستاذنها وقد بدا عليه الاضطراب من ان تعطيه الدفتر الذي كتب فيه أشعاره، فترفض وهي تنظر إلى عينيه وتبتسم في تدلل وحنو . وأكبر الظن أن رفضها قد كان أحساساً منها بالخوف من أن يأخذ الدفتر ويذهب ولا يحضر ثانية إلى البيت، ولا سيما بعد أن جذبت بالأمس يدها من يده .ولكن من الحق أن رغبته في أن يأخذه ثم يترك البيت ولايحضر بعده لم تكن حقيقية ، وأنما كانت افتعالا منه ، يهددها به كي ترضخ إليه ، وترق في علاقتها به . ولكنها تغيرت ، وتغير سلوكها وتصرفها معه ، ولم يعرف إن كان قد أحس بهما حينذاك أم كانا من قبل ، فتفائل عنهما ، أم غابا عن ادراكه ، فلم يشعر بهما إلا بعد أن رأى ما حدث منها عندما أمسك يدها ليبثها حبه واشتياقه اللذين يبديان رغبته فيها .
وجاء يومان ، تشابه سلوكها فيهما ، واختلفت النتيجة بينهما ، فجاء اليوم الأول ، بدأ بعده الشك فيها يثور في قلبه ، وتلاه اليوم الثاني ، أدرك فيه صبوتها واحتياجها ، وعرف فيه رغبتها واشتياقها ، وأيقن معهما خوفها من أن تفصح له عن ذلك ، الصراع ثار في نفسها ففعلت شيئاً لم تقوَ على أن تمتنع عنه .
التكملة في العدد القادم