بقلم: الدكتور غازي الفنوش
هناك علاقة وثيقة بين الطب والأدب فهما متلازمان إلى حد بعيد، ويربط بينهما خيط رفيع هو الإحساس، فالطبيب يحس بآلام الناس و ينقب عن موطن الداء ليصف الدواء المناسب، وكذا الشاعر أو الأديب يجسد مواطن الالم ومشاعر الناس فيصفها بعبارة أدبية تختلف باختلاف الوسيط الأدبي فتكون مفصلة في الرواية ومقتضبة في القصة القصيرة، وشديدة الكثافة واللطف في الشعر .
لقد شهد تاريخنا العديد من الأطباء الذين امتازوا بالحس الأدبي والفني وتذوق الجمال وبرعوا وابدعوا في صياغة العلوم الطبية بطرق أدبية مثال:
ابن سينا الطبيب الفيلسوف والشاعر حيث برع في تسخير الشعر لتسهيل دراسة الطب و حفظه و إيصال ما يريده من نصائح علاجية و وقائية بطريقة إبداعية، وأرجوزته المشهورة في الطب والتي جمع فيها الطب في 1314 بيتاً من الشعر، وكذلك الفيلسوف الطبيب الشاعر ابن الطفيل، فقد استطاع أن يصوغ خبرته في الطب والتشريح بقصيدة بلغت اكثر من سبعة آلاف وسبعمائة بيت من الشعر .
وحديثا يكثر وجود الأطباء في عالم الأدب سواء في عالمنا العربي أو العالم ككل، ومن هذه الأسماء، أنطون تشيكوف، روبن كوك، ابراهيم ناجي، يوسف ادريس، علاء الأسواني، مصطفى محمود، أحمد تيمور، واسامة علام، ومحمد منسي قنديل وغيرهم…
إن من أسباب ميل الأطباء الدائم نحو عالم الأدب، ذلك لأنه يتعين على الطبيب في البداية قراءة الكثير لنيل شهادة مزاولة المهنة، ومن ثم الاستمرار في القراءة لمتابعة التطورات العلمية والحصول على آخر مستجدات الابحاث الطبية، والتغيرات في اساليب المعالجة، وهذا يجعل القراءة عادة محببة وأساسية وثابتة شبه يومية لدى الطبيب، هذا وبعد مرور سنين طويلة من القراءة الطبية فإن الطبيب يتجه إلى القراءة بمجالات أخرى غير طبية، كنوع من التغيير وكسر الروتين، فيصبح متذوقا للشعر قارئا للرواية محبا للنثر و واسع الاطلاع على شتى أنواع الأدب.
الطبيب يمتلك خبرة انسانية لا يملكها غيره و يعرف من أسرار المريض ما لا يعرفه حتى صاحبته وبنيه. هذه الخبرة الانسانية المتراكمة تجعل من الطبيب انسان ذو نفسية خاصة و تجربة ثرية في الحياة ولديه دائما ما يكتب عنه لتفريغ مكنون نفسه، و إن تعامل الطبيب مع كافة أنواع البشر وفئات المجتمع، يكسبه معجم كبير جدا من المصطلحات اللغوية التي تمكنه من التواصل مع المريض وتمرير له المعلومة الطبية المعقدة بأسلوب سهل ومفهوم من قبل المريض، وهذا ينمي لدى الطبيب موهبة التعبير والكتابة بأسلوب شيق يستطيع به أسر قلب القارئ وعقله ..!!
إن المجتمعات العربية تدفع الكثير من أبنائها لدراسة الطب عن طريق التحفيز النفسي المستمر ووضع المهنة الطبية كهدف أسمى للطالب، بشكل مباشر أو غير مباشر، وذلك بسبب ميل المجتمع بوجه عام نحو المهن العلمية ومحاربة المهن الأدبية و الفنية، و هذه المأساة في المجتمع العربي دفنت الكثير من المواهب الأدبية و الفنية ، ومن المعروف بأن الاطباء كانوا طلاب متفوقين بالمواد العلمية والأدبية وبنفس المستوى، ولذا كثير من الأطباء الادباء بأنهم كانوا في الأساس أدباء في مشاعرهم وميولهم درسوا الطب ثم عادوا لممارسة الأدب مع الطب وابدعوا بالاثنين معا .