بقلم: أسامة كامل أبو شقرا
يوم الجمعة الواقع فيه 15/3/2019، وبنفسٍ ملؤها الحقد والكراهية على “المهاجرين المسلمين” أو “غير البيض”، دخل المدعو برنتون تارانت إلى مسجدين، على التوالي، في نيوزيلندا وراح يطلق النار بدمٍ باردٍ عشوائيا على أناسٍ، ذنبهم أنهم كانوا مولّين وجوههم شطر ربهم يصلّون، وأردى منهم خمسين رجلًا. وكأنه قد عانى هو شخصيًّا من ظلم ووحشية من احتلوا أستراليا وقتلوا أعدادًا هائلة ممن كانوا يعيشون فيها منذ آلاف السنين، ناسيًا أو متناسيًا بأنه واحدٌ من أبناء أولئك المحتلين، ونرجو الله أن تكون هذه الحادثةُ الأخيرةَ.
بالتأكيد لم تكن هذه هي الحادثة الأولى التي يُعتدى فيها على المصليّن سواء في المساجد أم في الكنائس، على أيدي مجرمي “القاعدة” ثم ابنتها “داعش” سواء في البلاد الإسلامية والعربية، أم في غيرها. ولم ننسَ بعد تفجير الكنائس في مصر، ثم قتل سبعةِ مواطنين مصريين أقباط وجرحِ تسعة عشر آخرين كانوا عائدين من زيارة دير القديس صموئيل في المِنْيَا جنوب القاهرة.
ولكن بماذا يختلف حال دونالد ترامب، رئيس الولايات المتحدة الأميركية، عن حال برنتون تارانت من حيث كراهية المهاجرين والمسلمين؟ وكلاهما يتحدرُ ممن احتلوا بالقتل البلاد التي يعيش فيها؟ لا شكَّ في أن هناك بونًا شاسعًا بين الاثنين. فإذا كان الأستراليُّ تارانت قد قتل خمسين “مهاجرًا مسلمًا”، فترامب ومن سبقه من رؤساء الولايات المتحدة الأميركية، وحلفاؤهم، قد تسببوا بقتل مئات الآلاف من المسلمين والمسيحيين وغيرهم، في الشرق الأوسط وحده، هذا عدا عن تهجير الملايين منه. ألم تكن بريطانيا خلف تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، منبع الفكر المتطرّف؟ ثم ألم تكن الولايات المتحدة الأميركية وراء الدعوة إلى “الجهاد المقدّس” بوجه السوفييت في أفغانستان منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، وإطلاق مارد التعصّب مع تأسيس “تنظيم القاعدة”، خدمة لمصالحها إبَّان الحرب الباردة؟ ثم لزرع الفوضى في البلدان المحيطة بإسرائيل، التي غرسها بيننا الاستعمار القديم، عملا بقرارات مؤتمر العام 1907 في لندن، ولا يزال ورثتُه يتابعون رعايتَها؟ عذرًا إذ هي التي أصبحت تدير سياساتهم بقوة المنظمات الصهيونية، وخاصةً في الولايات المتحدة الأميركية.
فإذا كنَّا يا إخواني، في البلاد العربية والإسلامية، نأمل في أن تكون حادثة نيوزيلندا الأخيرة من نوعها، فالأمل وحده ومن دون العمل لا يُجدي نفعًا. والعنف سيولد أعنف منه فعندما تُملأُ النفسُ بالحقدِ والكراهية يموت فيها حسُّ الإنسانية ويصبح الشخص وحشًا ضاريًا تسيّره غريزة القتل. وإذا كان الحيوان المفترس يقتل ليتغذّى فالوحش البشري يتمتع ويتلذّذ بقتل أبناء جنسه، بينما لا يقتلُ النمرُ نمرًا والذئب لا يقتل ذئبًا. وتلك الدماء التي سالت في نيوزيلندا وما سبقها في أنحاء متفرقة من العالم، تفرضُ على كلٍّ منا، مهما كان موقعه أو مهنته أو درجته، أن يعمل جاهدًا لوقف هذا المسلسل الإجرامي، لا تُجاه المسلمين والمسيحيين فقط بل تجاه البشر أجمعين، مهما كانت أعراقهم وألوانهم ودياناتهم ومذاهبهم. وإذا كنّا لا نستطيع إيقافه في العالم أجمع، فلنعمل على تحصين وحماية بلادنا من أخطاره، وأبنائنا من الوقوع في شباك مدبري تلك الجرائم.
وليبدأ كلٌّ من بيته ثم حيّهِ ثم مدينته ثم وطنه. وليكن الجهل أول عدوٍ نحاربه، فهو أصل كلِّ علّة وأهمّها التعصّب والتزمّت والغلو في الدين. ومحاربة الجهل لا تكون في تعليم القراءة والكتابة فقط، بل في التوعية من الأخطار الآنية ومما تخبّئه الأيام. ولنغرس في قلوب وأذهانِ أبنائنا أنّ الناس أخوة في الوطن وفي الإنسانية، ومن خالفني في رأيي أو ديني أو مذهبي هو أيضًا أخي وليس عدويّ. وبقدر ارتفاع درجة كلٍّ منا في وطنه تعظم مسؤوليته.
فمسؤولية القادة السياسيين تكون أولًا في وضع مصلحة الوطن والمواطن فوق كل مصلحة. ثم في العمل على المساواة الكاملة بين المواطنين مهما كانت انتماءاتهم الدينية أو السياسية. ووضع المناهج الدراسية الموحدة وخاصة في التربية الوطنية. ويبقى تأمين فرص العمل من الأولويات، فكم من جريمة كان مرتكبها من دون عمل؟
ومسؤولية الإعلام والإعلاميين هي في تقديم الخبر الصادق والتحقق من صحته ومن خلوه من سموم التفرقة بجميع أشكالها، وفي نبذ كل ما يسيء إلى وحدة المجتمع وقيمه وسلمه وسلامته، وفي توعية متابعيهم لعدم الوقوع في حفر وفخاخ ما ينشر على مواقع الإنترنيت والتواصل الاجتماعي. وعلى سبيل المثال فبالأمس “أوضحت فيسبوك أنها تتصدى، حاليا، لأكثر من 200 منظمة على مستوى العالم تؤمن بتميز العرق الأبيض، مشيرة إلى “أنها تعمل على إزالة ما تنشره هذه المنظمات من محتوى على منصة فيسبوك من خلال تكنولوجيا الرصد الآلي”. ولنخنُقْ صوتِ التطرف ونُعلي صوت الاعتدال.
ومسؤولية رجال الدَّين عظيمةٌ أيضًا، إذ عليهم يقع حمل تبيان تعاليم الدين الصحيحة بما فيها من التسامح ومحبة الآخرين، سواء كانوا من أبناء دينهم أم لا. وأليس كل الأديان تدعو إلى السلام وتحرّمُ القتل؟ ولتكن خُطبهم وعظاتهم دروسًا في الرحمة والمحبة والتسامح. فالله محبة وهو الرحمن الرحيم.
ومسؤولية المدرسة والمعلمين لا تقلُّ أهميّة عن غيرها، فعتبة المدرسة هي أول ما يدوسه الطفل بعد عتبة منزل والديه. وما يتعلمه في المدرسة يرسخ في عقله وقلبه مدى الحياة، فـ “العلم في الصغر كالنقش في الحجر”. وليكن تعليم التاريخ لأخذ العبر ولبناء مستقبل سليم معافًى، لا لزرع بذور التفرقة بين أبناء الوطن الواحد، ولا لنكئ الجراح. وليكن تعليم التربية الوطنية والقيم الأخلاقية والدينية لبناء المجتمع السليم والمواطن الصالح الذي لا يُشترى ولاؤه لغير وطنه بكنوز الدنيا كلها. وهذا أيضًا واجبُ أصحاب القلم أجمعين، من أدباء وشعراء ومؤرخين وغيرهم.
قد يقول بعض من قرأ هذه المقالة بأنها من الأحلام أو مثالية، فأقول بأنّ الأعمال العظيمة تبدأ حُلمًا، ومن ليس له مثلٌ أعلى وهدفٌ يسعى إليه ضاعت أيامُه سدًى.
اللهم، أنت السلام فاجعلْه يعمّ جميع أنحاء العالم.