بقلم: محمد منسي قنديل
لم أعرف بوجود هذا الصنف الروائي، إن كان يمكن أن يعد صنفا، إلا بمحض المصادفة، وكلمة Tie in على بساطة حروفها لا يمكن ترجمتها بدقة، ولكنها هنا تعني الارتباط بشيء ما، شيء لزوم الشيء، رواية غير مستقلة، يتم كتابتها في ظروف معينة ولخدمة غرض محدد، ولكن دعوني أولا أقص عليكم كيف تعرفت على هذا النوع من الروايات.
قابلت الكاتب الأمريكي “ستيفن مولستاد” في أحدى المهرجانات الأدبية في مدينة “خلابا” في المكسيك، لم أكن قد قرأت له شيئا، او حتى سمعت باسمه عرضا، من المؤكد أنه لم يكن واحدا من الأسماء الكبرى في الأدب العالمي، ولكني فوجئت بالحفاوة الضخمة التي يتم استقباله بها، طوابير القراء الشباب لا تنقطع، تحمل كتبه الثلاثة حتى يوقع عليها، كما أن المحاضرة الادبية المخصصة له قد أقيمت في اكبر قاعات المدينة، واحتشد المئات داخلها وخارجها ، حدث هذا الاحتشاد معنا جميعا وإن كان بدرجة أقل، ورغم ان ثمن التذكرة يصل إلى 15 دولارا فقد كان هناك تشوق للاستماع للكتاب الذين حضروا من كل مكان في العالم، حتى أنا، الكاتب الأسير لغته غير الحية، ولكنهم كان يريدون أن يعرفوا ماذا يمكن أن اقول عن نفسي، وعن مصر موطني خاصة وأنها تعيش حالة الثورة، ولكن هذا لا يقاس بالحفاوة التي تلقاها “مولستاد”.
بالمصادفة كنت جالسا بجانبه وهو يقوم بتوقيع كتابه للمرة الثانية، والمئات مازالوا يقفون في صفوف رغم حرارة الجو، وفوجئت به يقول لي: لماذا يفعلون بي ذلك، إن لديهم مجموعة من أفضل كتاب العالم؟ فوجئت بقوله وصراحته ومعرفته بقدر نفسه، كنا بالفعل في احدى بلدان أمريكا اللاتينية، اعظم متحف عرفته البشرية للكتاب الموهبين، وفي المكسيك بالذات هناك العديد من الذين وضعوا بصمة مميزة على الأدب العالمي، اكتافيو باز الشاعر العظيم الحائز على جائزة نوبل، كارلو فونتس، خوان رولفو، اجناسيو سولاريس، وغيرهم، ولكني خجلت من جهلي، كان يجب أن اعرف ماذا فعل هذا الرجل ليستحق كل هذا الاهتمام؟ مفاجأتي الاولى أنه جاء محملا بشهرة السينما الأمريكية، كان هو مؤلف فيلم “يوم الاستقلال”، انتاج سينمائي ضخم من نوع الخيال العالمي، واحد من سلسلة أفلام هدف واحد هو ابراز فضل أمريكا على البشرية، وكيف أنه لولا وجودها وذكاء شعبها لم تمكن العالم من انقاذ نفسه من الأخطار التي تحيق به، وقد استعرضت شاشة الفيلم بالفعل أشهر معالم الحضارة البشرية وهي يتم تدميرها، من اهرامات الجيزة في مصر حتى البيت الأبيض في أمريكا قبل أن تتدخل العبقرية الأمريكية، في بداية الفيلم يكتشف أحدى مهندسي الاتصالات أن هناك اشارات إلكترونية تدل على أن هناك عدا تنازليا للهجوم على العالم وتدميره، هناك غزاة قادمون من الفضاء الخارجي، وقد اختاروا يوم الاستقلال الامريكي في الثالث من يوليو للقيام بهذا الغزو، هدفهم الوحيد هو تدمير كوكب الأرض، ورغم أن الرئيس الأمريكي يأمر بإخلاء كل المدن الكبرى إلا أن الغزاة يبادرون بالهجوم، تخترق سفينتهم الأم مدار الأرض، ويخرج منها عشرات الأطباق الطائرة، تحمل كائنات قادمة من كواكب مجهولة تدمر كل ماتصادفه، يحاول الجيش الأمريكي أن يقاوم، ولكن اسلحته المتطورة تعجز عن اختراق دفاعات السفينة الأم، حتى بعد أن يجرب الاسلحة النووية، يكتشف أنها محصنه ضد كل أنواع الأسلحة دون استثناء، وكالعادة في مثل هذه الأفلام يأتي الحل بمحض المصادفة، يتمكن أحد العلماء من خلال فحص أحد الأطباق المدمرة أن ينتج فيروسا مضاد يستطيع التسلل إلى كومبيوتر السفينة الأم ويخترق دفاعاتها، وأخيرا يتمكن الجيش من تدميرها، وبذلك تنقذ أمريكا العالم للمرة المائة بعد الألف كما تقول أفلام السينما.
ربما كان هذا الفيلم جيدا ومبهرا ومثيرا، ولكن هل يصنع هذا الموضوع رواية جيدة؟ كان احساسي وأنا اجلس بجانبه وهو يوقع مئات النسخ مزيجا من الدهشة والغيرة، ولم لا، كاتب تخدمه الميديا الأمريكية بكل جبروتها وسطوتها يجلس بجانبه كاتب آخر تظلمه وقائع عالمه العربي وتثقل كاهليه، ولكن المفاجأة التي أذهلتني حقا هو اكتشافي أن رواية هذا الكاتب لا تعدو كونها من نوع التاي إن tie- in، واحد من منتجات الدعاية والانتشار التي تصاحب اي عمل فني كبير، منتجات مصاحبة، اشرطة فيديو تحمل نسخا من الفيلم، العاب كومبيوتر تحول الأحداث إلى لعبة مثيرة، قمصان وأكواب مطبوعة، دمى بلاستيكية لشخصيات الفيلم، ولكن أهم وسائل الترويج هذه هي كتابة رواية تحمل أسم الفيلم، وتضع على غلافها واحدة من مشاهده، ويتم ذلك بإعطاء السيناريو الأصلي للفيلم إلى أحد الكتاب وتكليفه بتحويله إلى رواية تطرح في الأسواق مع عرض الفيلم.
أي أن رفيقي المشهور لم يكن مؤلفا حقيقيا، أو على الأقل كاتبا كامل الأهلية، فقد اعتمد في التأليف على سيناريو كتبه اثنين من المحترفين، عمق الشخصيات واضاف المزيد من التفاصيل، ولكنه ظل ملتزما بالسيناريو الذي لم يكن هو من ابتدعه، وقد احسن استغلال الفرصة، جعل النهاية مفتوحة، وألف بعد ذلك كتابا ثانيا بعنوان “يوم الاستقلال ـ منطقة الصمت”، وثالثا بعنوان “يوم الاستقلال ـ حرب في الصحراء”، عاد فيه بالزمن للوراء، وجعل أحداثه الخيالية تدور في صحراء السعودية في الستينات من القرن الماضي، وهكذا نرى ان المؤلف الهمام قد عصر سيناريو الفيلم واستغل كل قطرة منه، والف ثلاث كتب كاملة حققت له هذه الشهرة الطاغية.
لا أذكر أن هذا حدث في السينما المصرية إلا في واقعة محددة، في فيلم “شباب امرأة” التي قامت ببطولته تحية كاريوكا وشكري سرحان، فقد أخذ السيناريو عن قصة قصيرة لأمين يوسف غراب، واعجبته المعالجة التي صنعها الفيلم فقام بتحويلها إلى رواية تحمل نفس العنوان، لا أذكر أن هناك حالة أخرى، وربما يعود هذا إلى تواضع انتاج الفيلم المصري وتكرار أفكاره، ولأنه في اغلبه مقتبس عن افلام اخرى، اضافة إلى أن عادة القراءة لا يعتد بها كثيرا في مصر، ورغم ذلك فإنني أعتقد أن رواية “التاي إن” واسعة الانتشار في الرواية المصرية، ربما بشكل غير رسمي ولكنه معلن، فمهنة الكتابة تظهر على الورق رغم أنف الجميع، والعديد من الروايات المأخوذة عن افلام أجنبية جلية وواضحة رغم ادعاء اصحابها أنها من تأليفهم وأنهم كتاب حقيقيون، “التاي إن” في الغرب صناعة قائمة، والكاتب يعترف سلفا بالمصدر الذي اخذ عنه، والغرض الذي كتب من أجله، ولكنها عندنا لا تعدو غير عملية من عمليات السطو وفقر الأفكار، فهذا الصنف من المؤلفين ثقافتهم الأساسية هي ثقافة الصورة، ويعتبرون الأفلام ، حتى الهندية، هي مرجعهم الأساسي، وهناك كتاب لا تعدو رواياتهم إلا تلخيصا شاملا لعدد من الأفلام العربية الرديئة، ولست في حاجة لذكر اسماء، فالكتابات تعلن عن نفسها، ولا يوجد سر يمكن اخفائه بين السطور، بقي فقط أن يضع كل كاتب منهم قائمة مراجع بالأفلام التي اعتمد عليها لعله يكتسب ولو ذرة ضئيلة من المصداقية.