بقلم : نعمة الله رياض
بمجرد حصولي علي شهادة الثانوية العامة في بلدتي والتحاقي بالجامعة بالقاهرة ، أصبح عندي أمل متوهج ورغبة جامحة في الحصول علي سيارة أذهب بها للكلية كل يوم ، وفي نهاية الأسبوع أسافر بها لبلدتي وأستخدمها في مشاويري ، أسوة ببعض زملائي المتيسرين وكبار الأساتذة والمعيدين بالكلية.. كنت أحلم بإمتلاك سيارة ، ليس من المهم أن تكون جديدة أو مستعملة ، كبيرة أو صغيرة ، لم أكن أشترط ( في حلمي طبعاً) مواصفات معينة لسيارتي الموعودة ، لكن بدأت إمكانية تحقيق حلمي فقط عندما تخرجت من الكلية وتسلمت أول مرتب أستحقه للوظيفة التي عينت فيها .. بدأت أبحث في إعلانات الصحف عن سيارة مستعملة مناسبة لدخلي المتواضع ، كنت أذهب لمعاينة السيارات المستعملة المعروضة في سوق السيارات ، لكن كان هناك سببين لإحجامي عن شراء سيارة مستعمله ، أولهما أن البائع أو معرض السيارات يطلب كامل السعر عند التسليم وكان ذلك فوق طاقتي ، وثانيهما إني لا أثق في حالة السيارة الفنية وحاجتها لقطع غيار تعيدها لكفائتها ورونقها وصلاحيتها للعمل بلا مشاكل..
ذات يوم قرأت عن طرح سيارة ماركة سيات 127 في الأسواق نقدا وبالتقسيط تجميع محلي بمصنع النصر للسيارات، ومما جذبني في مواصفتها أن طولها 360 سم وعرضها 150 سم ، مما يجعلها سهلة القيادة في الطرق المزدحمة وتوقيفها في أصغر مسافة متاحه بجانب رصيف الطريق ، ولها 4 باب ، ومحرك 47 حصان ،وناقل حركة يدوى 4 سرعات، وسرعتها القصوى 130 كم/ ساعة، ومتوسط استهلاكها للوقود 7 لترات لكل 100 كم. وخلفيتها مائلة، يغطيها باب يوفر حقيبة خلفية لوضع الأمتعة .. ذهبت إلي موزع لشركة النصر للسيارات يقدم تسهيلات في السداد ودفعت مقدم لثمنها وانتظرت ثلاثة أشهر حتي جاء دوري في الاستلام ، استعنت بزميل لي في العمل لقيادة السيارة من معرض السيارات حتي منزلي ، كنت أجلس سعيداً بجانب زميلي الذي كان يقودها بسلاسة ، وقد عرض علي أن يدربني علي القيادة بلا مقابل .. وافقت علي أن نبدأ دروس القيادة في اليوم التالي ، أغلقت السيارة الواقفة أمام بيتي وربت بكفي علي بدنها مسروراً .. بشعور غريب وانا أضع يدي علي غطاء محركها الدافئ ، أحسست أنها تبادلني السلام وتهتز طربا من حناني !! مضى شهر كامل في التدريب حتي أتقنت القيادة وتقدمت لأداء امتحان المرور، وحصلت علي الرخصة اللآزمة لقيادة سيارتي والتي أطلقت عليها إسم (عزيزة ) !! .. في اليوم الأول لقيادتي السيارة عزيزة منفرداً بدون إشراف من زميلي، فوجئت عندما أدرت مفتاح التشغيل بإهتزاز السيارة وسمعت بوقها يجلجل بدون أن أضغط علي الزر المختص !!، تعجبت من ذلك جداً ، وقلت لنفسي متهكماً لعل عزيزة ترحب بي باعتباري مالكها ، وذلك بطريقتها الخاصة !! ، ولكن ذلك تكرر عدة مرات وفي مناسبات مختلفة ، فمثلا إتفقت مع بعض زملائي في العمل أن نزور الأسكندرية يوم العطلة بالطريق الصحراوي ، كل بسيارته الخاصة ، كان الطريق خالي تقريباً لأننا بدأنا الرحلة فجراً في الخامسة صباحا ، وخطر لنا أن نتسابق حتي الرست هاوس ، وبدأنا السباق بعد بوابات المرور مباشرة ، قدت سيارتي عزيزة بأقصي سرعة مذكورة في مواصفاتها – 130 كم/ ساعة – ولكن لسبب ما شعرت أن عزيزة أدركت أني أتنافس مع آخرين علي الطريق فبذلت كل ما في وسعها وتقدمت علي باقي السيارات ، وبعضها ماركات عالمية ، ووصلت لنقطة النهاية وهي تهلل بالبوق بدون أن ألمس زر البوق !! ذهبت بها لكهربائي سيارات فلم يجد علة في البوق أو دائرة الكهرباء، ولكنه نصحني أن أشتري بوقاً جديداً ، لكني أيضاً لاحظت تصرفاتها الطائشة تتكرر ، قطعاً هناك تفسيرات محتملة ، إحداهما أنها سعيدة بمصاحبتي وتعبر عن شعورها نحوي ، مثل تصرفات الكلب الأليف مع صاحبه !! أو أنها ملبوسة بواسطة عفريت ظريف !! ، مضت الأيام وزاد اعتمادي علي عزيزة أكثر وأكثر ، وكانت علاقتي بها تتنامي يوما بعد يوم ، واعتبرتها فرداً مهما في أسرتي الصغيرة ، خاصة بعدما تزوجت وأصبح لي طفلين .. لكن تصرفات عزيزة الغريبة أخذت في الازدياد، وسببت لي قلقاً متعاظم ، أذكر مرة كنت أقودها يوم الذروة وازدحام الشوارع بالسيارات ، أن أدرت مفتاح راديو السيارة علي محطة تذيع الأخبار العالمية والمحلية ، وذلك لاستهلاك وقت السير المتقطع ، لكني فوجئت بأغاني وموسيقي تصدح عالياً من محطة أخري ، أيضا بدون أن المس الزر المختص ، فأغلقت الراديو وانا أحملق فيه مشدوهاً !! وفي مرة أخري كانت عزيزة واقفة في إشارة مرور ، وأشرت لبائع الصحف لأشتري صحيفة ، لكن المسافة بين عزيزة والسيارة التي علي يساري لم تكن تسمح بمرور بائع الصحف فإستدار إلي النافذة اليمني ونقر علي زجاجها المغلق ، كانت النافذة اليمني بعيدة عن متناول يدي فقامت عزيزة بالمهمة وحركت الزجاج لأسفل !! .. بالرغم من تصرفات عزيزة معي والتي يظهر منها جليا مدي صداقتها وإخلاصها وحبها لمساعدتي ، إلا ان زوجتي أصرت علي بيعها خوفاً علي الأطفال من تصرف أحمق لعزيزة في المستقبل ، وقالت لي :- ما ينقصنا حقاً أن نشتري خوذات لنا وللأطفال ونحن نستقل هذة السيارة المجنونة .. وهكذا ذهبت بها لسوق السيارات وأوقفتها مع السيارات الأخري المعروضة للبيع وأطفأت المحرك ورفعت غطاءه لكي يفحصه المشترون مثل باقي السيارات المعروضة .. ولسبب ما أدركت عزيزة أنها معروضة للبيع ، عرفت ذلك من رعشة بدنها ، كذلك عندما هم زبون بفتح بابها للجلوس علي مقعد القيادة ، تحركت قليلاً إلي الأمام فسقط علي الأرض وإنسكب زيت وسناج من قاع السيارة علي حذائة وبنطاله مختلطاً بتراب الشارع ، فأسرع الزبون بالإنصراف وهو يسب ويلعن، وغادرت سوق السيارات مع أصوات البهجة التي يصدرها بوق عزيزة !! .صرفت نظري عن بيعها وقررت الإحتفاظ بها لإستخدامي ، واشتريت بالتقسيط سيارة حديثة لزوجتي بمواصفات أعلي كثيرا من تلك التي لعزيزة ، فمحركها 80 حصان بكاربوراتير مزدوج وناقل الحركة اتوماتيك وسرعتها القصوي 180 كم /ساعة ومكيفة والأبواب تعمل بالسنترلوك وزجاج أبوابها يتحرك بالكهرباء .. من المذهل حقاً مقارنة أول سيارة في العالم تسير بالبخار وبعدها أول سيارة يعمل محركها بالإحتراق الداخلي منذ أقل من 140 سنه !! لقد ثابر العلماء ومراكز الأبحاث علي تطوير كل جزء من السيارة ليصلوا إلي السيارات التي نشاهدها الآن.. وحالياً يعمل العلماء علي تسيير سيارات ذاتية القيادة علي الطرق في المستقبل القريب وهي قادرة على استشعار بيئتها والعمل دون تدخل بشري، فلا يلزم وجود راكب أو عجلة قيادة او حتي دواسة مكابح من الأساس، فالسيارة يمكنها العمل بشكل مستقل تماماً، كما لو أن هناك شخص يقودها فعلاً. ويمكن أن تعمل في وضع القيادة الذاتية، ولكن حتى تتطور التشريعات والبنية التحتية، لا يمكنهم القيام بذلك إلا في منطقة محدودة ، فأين لسيارتي السيات من كل هذا التقدم ،وهي بلا كماليات والتحكم فيها يدويا بشكل كامل ، ورغم ذلك كنت دائما أفضل قيادة سيارتي العزيزة – عزيزة – متحملا شقاوتها وطيشها وإستمرت في خدمتي أكثر من عقدين من الزمن حتي بعد إحالتي علي المعاش بعدة سنوات ، وعندما تزوج إبني وإبنتي وإستقلا في سكنهما الخاص ، أصبح حاجتنا لأكثر من سيارة بلا معني ، لكن أيضاً بيع عزيزة لم يكن مطروحاً للنقاش ، فكنت أخزنها في موقف سيارات لأيام طويلة بلا إستعمال ، كنت أزورها كل بضعة أيام لأربت علي بدنها وكانت ترد علي سلامي بإضاءة الكشاف وإطفائة مع صوت بوقها المعتاد.. في يوم وأنا أمارس رياضة المشي حول حديقة عامة بجوار المنزل ، شاهدت سيارة صغيرة واقفة بجانب رصيف الحديقة ، يمتد منها كابل كهربائي لداخل الحديقة ، وحقيبة الأمتعة مفتوحة وبداخلها رفوف عليها أكواب زجاجية وسخان كهربائي وثلاجة صغيرة ، إقتربت من مالك السيارة الجالس علي مقعد بجانبها ، طلبت منه زجاجة مياة غازية وسألته :- هذا مشروع ممتاز خصوصاً للشباب الذين يعانون من البطالة .. هل حصلت علي ترخيص لهذا النشاط ؟ – بالطبع ، لقد قدمت طلباً للحصول علي ترخيص لعربة المأكولات وارفقت به شهادة لسلامة الغذاء وشهادة صحية ومستندات أخري مطلوبة ، ودفعت رسوم الترخيص ، وجاءت لجنة للتأكد من الجودة والشروط الصحية ومن توفير مصادر للمياه والكهرباء .. عدت إلي المنزل وأنا أقدح عقلي في حل ظهر في الأفق لسيارتي عزيزة التي خدمتني بإخلاص عقدين من الزمان ونيف . ويمكنها أيضا وهي واقفة علي الرصيف ، أن تقدم لي مصدراً إضافياً للرزق، ووسيلة مضمونة لكسر الوحدة والفراغ ، وعودتي لسوق العمل بدلاً من إحالتي لهامش الحياة !..
نفذت المشروع ، وطبعت علي أبواب السيارة إعلاناً مبتكراً ، جلب كثيراً من الزبائن : (( بليلة بالحليب شتاءاً .. أيس كريم بالفواكه صيفاً )) !!