بقلم / مسعود معلوف
سفير متقاعد
يقضي الدستور الأميركي بإجراء انتخابات رئاسية كل أربع سنوات، وانتخابات تشريعية كل سنتين. الإنتخابات التشريعية تشمل جميع أعضاء مجلس النواب البالغ عددهم اربعماية وخمسة وثلاثون عضوا، وثلث أعضاء مجلس الشيوخ إذ أن هؤلاء البالغ عددهم مائة عضو (عضوان عن كل ولاية أميركية) يخدمون مدة ست سنوات، فتجري انتخابات لثلث الأعضاء كل سنتين. الإنتخابات التشريعية تتزامن مع الإنتخابات الرئاسية كل أربع سنوات، وتجري مجددا بعد سنتين، فتصادف منتصف الولاية الرئاسية وتعرف عندئذ بالإنتخابات النصفية.
الإنتخابات النصفية التي جرت هذه السنة في الثامن من تشرين الثاني (نوفمبر) انتهت بفوز نسبي وخسارة نسبية لكل من الحزبين الديمقراطي والجمهوري.
بالنسبة الى الحزب الديمقراطي، كان معظم المراقبين يتوقعون خسارة كبيرة لهذا الحزب إذ أنه، من الناحية التاريخية والإحصائية، الحزب الذي يسيطر على البيت الأبيض يخسر إجمالا هذه الإنتخابات ويكسب الحزب المعارض الأكثرية في مجلسي النواب والشيوخ التابعين للكونغرس، يضاف الى ذلك هذه السنة أن الوضع الإقتصادي ليس جيدا والتضخم المالي بلغ ارقاما قياسية ونسبة التأييد للرئيس بايدن متدنية، وهذا ما جعل الكثيرين ينتظرون موجة جمهورية ضخمة تسيطر على مجلسي الكونغرس عرفت بالموجة الحمراء لأن اللون الأحمر يرمز الى الحزب الجمهوري بينما الأزرق يرمز الى الديمقراطي، إلا أن ذلك لم يحصل وخسر الديمقراطيون مجلس النواب ولكنهم حافظوا على الأكثرية في مجلس الشيوخ.
أما بالنسبة الى الحزب الجمهوري، فهو، مع فوزه بالأكثرية في مجلس النواب، لم يحقق فوزا كاسحا إذ أن الأكثرية التي حققها ضئيلة جدا خلافا للتوقعات، فكان ذلك بمثابة نصف انتصار، كما أنه لم يتمكن من السيطرة على مجلس الشيوخ لكسب الأكثرية فيه، فكان ذلك بمثابة نصف خسارة.
إن حصول الحزب الجمهوري على الأكثرية في مجلس النواب، وإن كانت أكثرية ضئيلة، سيخلق للرئيس بايدن بعض المتاعب، سواء في السياسة الداخلية أو في السياسة الخارجية، ولكن الفوز النسبي الذي حققه حزب الرئيس بايدن باحتفاظه بالأكثرية في مجلس الشيوخ سيساعده بعض الشيء على تجنب قسم من هذه المتاعب.
أولا: المضايقات التي سيسببها الحزب الجمهوري للرئيس بايدن
في الثالث من كانون الثاني (يناير) تبدأ دورة السنتين للكونغرس وفقا للتعديل الدستوري رقم 20 الصادر عام 1933، وقد تعهد عدد من نواب الحزب الجمهوري أن يباشروا منذ اليوم الأول للكونغرس الجديد بتشكيل لجنة لمحاكمة نجل الرئيس بايدن الذي له منذ سنوات بعض المصالح المالية في كل من أوكرانيا والصين، بتهمة استعمال نفوذ والده السياسية عندما كان نائبا للرئيس أوباما وقبلها رئيسا للجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس.
لا بد من التوضيح أن هذه التهم ظهرت منذ بدأ بايدن حملته الإنتخابية عام 2020، وهو قد صرح آنذاك بأنه لم يتدخل يوما مع أي مسؤول في العالم للمساعدة في أعمال ونشاطات نجله الدولية، وجدير بالإشارة هنا الى أن الرئيس السابق دونالد ترامب، أثناء رئاسته، اتصل بالرئيس الأوكراني للحصول منه على تأكيد للتهم الموجهة ضد بايدن، وعندما فشل في ذلك، قطع بعض المساعدات عن أوكرانيا، وقد شكل هذا التصرف غير القانوني من قبل ترامب سببا لمحاكمته من قبل الكونغرس الذي كانت الأكثرية فيه للديمقراطيين، ولكنهم فشلوا في عزل ترامب لأنهم لم يتمكنوا من الحصول على تأييد %75 من أعضاء مجلس الشيوخ، ويبدو أن الجمهوريين يستعدون الآن للإنتقام، ولكنهم سيصابون أيضا بالفشل في محاكمة بايدن لأنهم لا يتمتعون حتى بالأكثرية البسيطة في مجلس الشيوخ الذي هو المخوَل عزل الرئيس بموافقة ما لا يقل عن %75 من الأعضاء.
على صعيد آخر، يستعد المتطرفون في الحزب الجمهوري، فور تسلمهم مهامهم في الكونغرس في مطلع العام القادم، لاتخاذ الخطوات الآيلة الى تشكيل لجان لمحاسبة إدارة الرئيس بايدن في وزارة العدل بتهمة تسييس هذه الوزارة لصالح الديمقراطيين، ووزارة الداخلية بتهمة عدم منع مئات آلاف النازحين من دخول الأراضي الأميركية عبر الحدود الجنوبية، ووزارة الصحة للتحقيق في طرق معالجتها جائحة كورونا، كما أنهم يستعدون لإلغاء اللجنة الخاصة التي تم تشكيلها لمتابعة تطورات التغير المناخي إذ أن قسما من اتباع الرئيس السابق ترامب في الحزب الجمهوري لا يؤمنون إطلاقا بمسألة التغير المناخي ويعتبرونها قضية سياسية بحتة يستغلها الديمقراطيون.
وعلى الصعيد التشريعي، يعتزم الحزب الجمهوري المباشرة فور توليه رئاسة مجلس النواب الغاء بعض القوانين التي صدرت في السنتين الماضيتين أيام رئاسة الحزب الديمقراطي للمجلس، ومنها قانون يقضي بتخصيص مبلغ 80 مليون دولار لقسم الضرائب في وزارة المالية لزيادة عدد مراقبي الضرائب لملاحقة المتخلفين عن دفع متوجباتهم الضريبية. كذلك يود الجمهوريون إصدار قانون يسمح لأهالي الطلاب بأن يكون لهم كلمتهم في البرامج التعليمية، واصدار قوانين لزيادة انتاج الغاز والبترول داخل الولايات المتحدة وكذلك زيادة التمويل لأجهزة الشرطة وأجهزة مراقبة الحدود.
وفي ما يتعلق بالسياسة الخارجية، ينوي غلاة اليمين الجمهوري في مجلس النواب تقليص المساعدات المالية والعسكرية المقدمة لأوكرانيا في حربها ضد روسيا، كما سيسعون الى تشكيل لجنة لمحاسبة إدارة الرئيس بايدن على كيفية انسحابها من افغانستان، وما رافق هذا الإنسحاب من عمليات ضد الجيش الأميركي أدت الى مقتل عدد من الجنود، والى ترك أسلحة ومعدات عسكرية متطورة تبلغ قيمتها عشرات بلايين الدولارات تمكن تنظيم طالبان من السيطرة عليها بعد الإنسحاب الأميركي المفاجئ.
ومن المتوقع أيضا، بالنسبة الى الشرق الأوسط، أن يضغط الجمهوريون، بعد تسلمهم رئاسة مجلس النواب، على إدارة بايدن للعودة الى القرارات التي كان اتخذها ترامب أثناء رئاسته، وأهمها الإعتراف بالضفة الغربية وهضبة الجولان على أنها أراض اسرائيلية، ووقف المساهمات الأميركية في ميزانية الأونروا، وعدم الإعتراف بحل الدولتين، وهي قرارات كانت إدارة بايدن تراجعت عنها بعد تسلمها الحكم مطلع 2021.
ثانيا: حدود تأثير مضايقات الحزب الجمهوري على إدارة بايدن الديمقراطية
جدير بالتذكير، قبل كل شيء، أن البيت الأبيض ومجلس الشيوخ هما تحت سيطرة الحزب الديمقراطي، ومجرد هذا الواقع من شأنه أن يحد كثيرا من وقع وتأثير مضايقات الجمهوريين على إدارة بايدن. فالقوانين التي يعتزم الجمهوريون تبنيها لا يمكن أن تصدر إلا بعد موافقة مجلس الشيوخ وتوقيع الرئيس عليها، ولذلك سيصعب إن لم يكن سيستحيل على الحزب الجمهوري المضي في برنامجه التشريعي المخالف لأولويات الرئيس بايدن.
وفيما يخص السياسة الخارجية، فهي من صلاحيات الرئيس ووزير خارجيته، ولن يستطيع الحزب المعارض التأثير على الرئيس إلا إذا كان هذا الأخير بحاجة الى موافقة مجلس النواب على قانون ما في أمر يهمه كثيرا، فيتم التفاوض بين الحزبين، وفي حال التوافق، يقبل الرئيس ببعض الأمور التي تهم الجمهوريين الذين يوافقون بدورهم على مطالب الرئيس التشريعية.
أما بالنسبة الى لجان التحقيق التي ينوي الحزب الجمهوري تشكيلها فور تسلمه رئاسة مجلس النواب في مطلع العام القادم، فهذا الموضوع هو من صميم صلاحيات المجلس الذي له الحق بالتحقيق في أي أمر أو مع أي مسؤول أو مواطن يعتقد أنه خالف الدستور أو القانون، أو تجاوز صلاحياته في مهامه الرسمية. ولكن على مجلس النواب، من أجل محامكة وعزل أي مسؤول بمن فيهم رئيس الدولة، إحالة المحاكمة الى مجلس الشيوخ ولا يمكن إصدار الحكم إلا بموافقة ما لا يقل عن ثلاثة أرباع أعضاء مجلس الشيوخ، ومن هذا المنطلق، وبما أن هذا النوع من المحاكمات هو سياسي وليس قضائيا، لن تستطيع لجان مجلس النواب الوصول الى أية نتيجة ملموسة في هذه المحاكمات.
الجمهوريون في مجلس النواب يعرفون جيدا استحالة تمكنهم من الوصول الى نتيجة نهائية في هذه التحقيقات، ولكنهم يودون إلهاء الرئيس بايدن بأمور جانبية تأخذ الكثير من وقته ومن وقت معاونيه سعيا الى عرقلة تنفيذ برنامجه الإقتصادي والتشريعي، ولإظهاره بمظهر الرئيس الضعيف، كل ذلك استعدادا للإنتخابات الرئاسية القادمة بعد سنتين والتي أعلن الرئيس السابق ترامب ترشحه رسميا لها منذ الآن.
من الأسباب الأخرى التي قد تحول دون تمكين غلاة الجمهوريين في المجلس النيابي من تحقيق أهدافهم هو أن بعض القادة في الحزب الجمهوري نفسه لا يشجعون المضي في مثل هذه الخطوات لانهم يخشون أن تنعكس سلبا على الحزب في الإنتخابات القادمة إذ أن المواطن الأميركي يهمه التركيز بصورة خاصة على الاوضاع الإقتصادية، ومحاربة التضخم المالي الذي أدى الى ارتفاع كبير جدا في أسعار المواد الغذائية
والطاقة، وعلى أمور حياتية هامة مثل التعليم والتأمين الصحي ومحاربة الجريمة، أكثر مما يهمه تشكيل لجان تحقيق بأبعاد سياسية بحتة لن تؤدي الى تحسين أحوال المواطنين بأي شكل من الأشكال.
في الإنتخابات النصفية الأخيرة، ركز الجمهوريون على الأوضاع الإقتصادية الصعبة في البلاد ومن هذا المنطلق، اعتقد كثيرون ان حزبهم سيحقق فوزا ساحقا، بينما الرئيس بايدن، في مداخلاته قبيل الإنتخابات، ركز على حماية الديمقراطية وعلى حق النساء في الإجهاض بعد أن ألغت المحكمة العليا منذ أشهر قرارها الصادر عام 1973 الذي كان يعطي الحق للمرأة في الإجهاض، ويبدو أن مداخلات بايدن في مجال الإجهاض والديمقراطية سمحت للديمقراطيين بإيقاف الموجة الحمراء التي كانت متوقعة.
والسؤال المشروع الذي يطرح نفسه الآن، خاصة في الدول التي تتهمها الولايات المتحدة بأنها غير ديمقراطية، هو عن أية ديمقراطية يتحدث الأميركيون عندما نرى أن كل ما يريد أن يفعله الحزب الفائز بالإنتخابات هو محاكمة الإدارة السابقة، ومحاولة إلغاء القوانين والقرارات التي اتخذتها، وهذا من شأنه أن يؤدي الى تغييرات جذرية في المواقف السياسية وعدم استقرار في البلاد، وأين الديمقراطية في عدم اعتراف ترامب بنتيجة انتخابات عام 2020 واعتداء مواطنين أميركيين على الكونغرس بتاريخ 6 يناير 2020 بتشجيع من الرئيس ترامب نفسه؟
ولكن يمكن القول في الختام أن هذه الديمقراطية، بالرغم من الشوائب التي تعتريها وبفضل الإنتخابات التي تجري بصورة دورية ومنتظمة، تبقى أفضل من القمع الذي يتعرض له المواطنون في الدول الدكتاتورية، حيث يفقد المواطن حقه في التعبير عن رأيه واختيار ممثليه بالإنتخاب، وتشكيل أحزاب ومجموعات سياسية تدافع عن حقوقه.
في الخلاصة، ما زالت الديمقراطية في الوقت الحاضر افضل الأنظمة السياسية المتوفرة في العالم، وتبقى العبرة طبعا في احترامها وتطبيقها.