بقلم: شريف رفعت
عم شعبان رجل طيب، عنده دكان لبيع العسل في حي شعبي، يواظب على الصلاة في الجامع، يعامل الناس بخلق حسن، و يتساهل معهم إذا أبطأوا في سداد ما عليهم. بعد موت زوجته و زواج إبنتيه عاش عم شعبان مع إبنه محمد في بيت العائلة. محمد أصغر الأبناء و أصعبهم في تربيته، فاشل في الدراسة، يدخن و يعلم الله إذا كان يدخن شيئً غير السجائر، يسهر في الخارج يوميا و له مجموعة من الأصدقاء ليسوا فوق مستوى الشبهات، عم شعبان فَشَلَ و تَعِبَ من محاولاته المستمرة لتقويم إبنه، لكنه قَبَلَ الواقع في هدوء و استسلام و دون شكوى، كما قبل من قبل وفاة زوجته و انكماش مبيعات تجارته و تدهور صحته. كان أمله أن يحصل إبنه على شهادة الثانوية العامة و يلتحق بأي كلية، لكن الولد كانت له أولويات أخرى ليس من بينها المذاكرة. عم شعبان كان دائما يصبر نفسه بأن إبنتيه ناجحتين في حياتهما فهما جامعيتان تعملان في وظيفتين محترمتين و كل منهما متزوجة و سعيدة في زواجها.
عم شعبان كان دائم الدعاء لمحمد بأن ربنا يهديه، في احد الأمسيات دخل حجرته فوجده يقرأ و هذا نادرا ما يحدث، إستبشر الرجل خيرا و سأل إبنه:
ـ بتقرا إيه يابني.
نظر محمد إلى والده ثم قال له:
ـ المصحف.
سر الأب و قال له:
ـ ربنا يفتح عليك، ما دمت بتقرا قرآن ما تتجدعن و تصلي كمان.
ـ كل شيء بأوانه يابا.
سكت عم شعبان، و إن كان قد تفاءل خيرا. إستمر الرجل في الدعاء لابنه و استمر في قبول منغصات الحياة في صبر و هدوء و تسليم.
بعدها بيومين دخل الرجل غرفة إبنه ليطمئن عليه فوجده مرّة أخرى يقرأ في مصحفه، مرّة أخرى إستبشر الأب خيرا و قال لابنه:
ـ ما تقرأ لي يا محمد شوية قرآن.
فَـرَ محمد صفحات الكتاب ثم قرأ بعض قصار السور. قال له عم شعبان:
ـ ربنا يفتح عليك و يهديك.
أخبر محمد أباه أنه ينوي السفر لإيطاليا ليبحث عن مستقبله، و أن له أصدقاء هناك سافروا قبله و وضعهم هناك مستقر و سيساعدونه و أنه محتاج لمبلغ من المال سيدفعه لمن سينقلوه بحرا إلى إيطاليا.
فوجيء الأب، حاول إقناع محمد بالبقاء، فهو إبنه الوحيد و المفروض أن يكون عونه في الحياة، ثم أنه غير حاصل على شهادة جامعية تؤهله لوظيفة جيدة بالخارج، لكن محمد كان مصمما، قال لأبيه:
ـ ده حتى ديننا بيأمرنا بالسعي في الأرض بحثا عن الرزق، أنا مش فاكر بالضبط نص السورة لكن فيه سورة في القرآن معناها كده.
كعادته قبل عم شعبان الموقف بهدوء و صبر و استسلام، رغم أنه لا يحب السلف إلا أنه إستدان المبلغ الذي طلبه محمد و أعطاه له. عندما حانت لحظة الوداع أعطى عدة نصائح لابنه أهمها ألا يتزوج من خوجاية، و أن يتصل به هاتفيا فور وصوله لطمأنته على أحواله، عاد الرجل إلى منزله بعد وداعه لابنه مكسور الخاطر، لكن هذا لم يكن جديدا عليه، ففقدانه لزوجته من عدة سنوات و فشل محمد في دراسته و في حياته عموما و صحته هو المتدهورة جعلوا كسر الخاطر عادة عنده.
مرت الأيام ثقالا و هو وحده في مسكنه، لا شك أن وجود محمد معه رغم مشاكله و خيبته كان أفضل، على الأقل كان هناك شخص يحادثه و ينتظر عودته في المساء و أحيانا يتناول الطعام معه.
بعد إسبوع دخل حجرة إبنه لأول مرّة منذ سفره، نظر لمحتوياتها، شجن عميق يستولى على مشاعره، على مكتب محمد الذي نادرا ما إستخدمه للمذاكرة كانت هناك صورة حديثة نسبيا للإبن في إطار أنيق يبدو فيها شابا و سيما، بجوارها مصحفه الذي قرأ فيه مؤخرا قبل سفره، أخذهما عم شعبان معه و وضعهما على المنضدة المجاورة لفراشه، شعر بشيء من راحة البال لوجود الصورة و الكتاب بجوار فراشه، عندما إستيقظ في الصباح نظر لصورة إبنه و إبتسم، ثم نظر للمصحف متأملاً، جلدته بنية قاتمة أنيقة و عليها كتابة جميلة بحروف ذهبية. تمنى لو كان يجيد القراءة كي يقرأ بعضا مما به، وضع يده على الكتاب المقدس و دعى الله أن يحمي إبنه و أن يتصل محمد به كي يطمئن عليه حيث مضى على سفره أسبوع و لم يسمع منه. فعلا في عصر ذلك اليوم تحدث معه محمد هاتفيا من إيطاليا، لم يعطه كثيرا من التفاصيل لكنه يكفي أنه أخبره أنه وصل سالما و قابل أصدقاءه الذين مفروض أن يساعدوه.
أصبحت هذه عادة عم شعبان، كل صباح عندما يستيقظ من نومه يضع يده على مصحف إبنه و يدعو الله، يدعو لإبنتيه و أسرتيهما و لمحمد و يدعو لنفسه بالشفاء و لتجارته بالرواج. لاحظ فعلا أنه تدريجيا و ببطء تحسنت صحته و خفت آلامه، أيضا تجارته أصبحت أكثر رواجا، لا شيءً باهرا لكن هناك حركة مباركة و بعض الزيادة في المبيعات، أيضا أصبح محمد أكثر إلتزاما في الاتصال به هاتفيا كي يطمئنه على أحواله.
تمر الأشهر و حياة عم شعبان رتيبة، يأوي لفراشه في أحد الأمسيات، يشعر بالضعف و بأن حياته تنسحب منه، يشعر أنها النهاية، يحمد ربنا أنه لم يمرض مرضا شديدا و لم يصبح عبئا على أحد، ينظر لصورة محمد المجاورة لفراشه، كم كان يتمنى أن يكون إبنه بجواره في لحظاته الأخيرة، مد يده و سحب مصحف إبنه، تشَهَدَ و أقفل عينيه للمرة الأخيرة.
بهدوء تقبل الجميع موته، لم يكن هناك حزن غلاب و لا فجيعة لفقدانه، كأن الجميع كانوا متوقعين موته، فدوره في الحياة إنتهى منذ فترة.
و هما جالستان في عزاء أبيهما و بعد أن إنتهيا مع باقي المعزين من الاستماع إلى قراءة القرآن إلتفتت الابنة الصغرى إلى أختها الجالسة بجوارها و همست:
ـ أبونا ما كانش يعرف القراءة.
نظرت إليها أختها مستطلعة، لماذا تذكر هذه الحقيقة الآن، قالت لها:
ـ طبعا أنا عارفة ما كانش بيقرأ، لكنه كان قادر على الحساب لما يتعامل مع زبائنه، و كان عارف مواصفات كل البضاعة إللي في محله، ليه بتقولي الكلام ده دلوقتِ؟
ردت الإبنة الصغرى هامسة و على وجهها إبتسامة دهشة و استحياء و بعض الحيرة:
ـ أمر غريب، لما دخلت أودة نومه لقيته في سريره ميت، و هو حاضن كتاب «عودة الشيخ إلى صباه».