قصة بقلم : نعمة الله رياض
ما زال تحت تأثير الصدمة .. لم يستطع إستيعاب الأحداث الأليمة والمتسارعه التي أدت لوفاة والده فجأة !! كيف يتحمل مسئولية إدارة الشركات والمصانع التي كان يرأسها والدة والتي تقدر أاصولها وحجم أعمالها بالمليارات.. والده الذي كان كالمحرك الكهربائي يدير هذه المشاريع بكفائة لا نظير لها .. كان ملئ السمع والبصر, تجده في أرجاء ألمصانع معظم ساعات العمل , يعاين علي الطبيعة سير العمل , ويحل المشاكل مع المختصين , ولا يعود لمكتبه إلا للرد علي المراسلات أو مقابلة بعض العملاء .
منذ ستة أيام فقط , بدأت درجة حرارته في الإرتفاع مع سعال جاف ومتقطع ُثم زإدت وتيرة السعال مصحوبا» بضيق تنفس شديد.. لم تتحمل زوجته تدهور حالته وصرخت في وجه ابنها أن ينقله إلي المشفي علي الفور , بعد الفحص , أخبرهم الأطباء بإصابته بعدوي فيروس الكورونا , وان حالته متأخرة وتستدعي نقله للعناية المركزة وتوصيل رئتيه بجهاز التنفس الصناعي .. لم يمر سوي عدة ساعات حتي لفظ أنفاسه بالرغم من جهود الأطباء الحثيثة للمحافظة علي إستقرار حالته الصحية والتي كانت حرجة بالفعل ..
إقتصرت الجنازة علي أفراد الأهل المقربين فقط لتعليمات التباعد الإجتماعي , نظرا» لظروف إنتشار الوباء ..كان عمه والشريك في إدارة المصانع حاضرا» في الجنازة .
في اليوم التالي للوفاه , تذكر أن يغلق حساب والده الشخصي في الفيس بوك , جلس أمام حاسبه الشخصي وضغط علي زر التشغيل فأضاءت الشاشه وضغط علي أيقونة حساب والده في الفيس بوك .. لدهشته أظلمت الشاشه ثم ظهر تنبيه : جاري إعادة البرمجة .. برجاء الإنتظار , بعد دقيقتين ظهر تنبيه آخر :جاري تحميل برنامج الإتصال بالجانب الآخر .. !! فوجئ بعدها بصورة مشوشه لوالده وهو يلوح له بيده.. تقلص وجهه وتبحلقت عيناه في الشاشه وشعر بشئ ينهش أحشاءه .. سمع صوت والده ضعيفا» كأنه قادم من بعيد:
- مشتاق اليك يا ولدي , ولم يمر علي فراقنا سوي ساعات قليلة !, كيف حالكم ؟ بذهول تام رد الإبن:
- أمي لا تكف عن البكاء وانا حزين للغاية لفراقك المفاجئ .. ولكن كيف نتحدث لبعضنا هكذا؟!!
- هذا برنامج حديث للفيس بوك يمكن تحميله بتكلفه عاليه و يتيح للمشتركين تبادل الحديث عبر الجانبين, جانب الأحياء وجانب من فارقوا الحياه .. وقد اشتركت فيه منذ عدة اسابيع فقط ..
- وهل يمكن الإتصال بأي شخص فارق الحياه ؟
- لا يمكن ذلك , يشترط أن يكون الإتصال بين الأحباء فقط, كالوالدين والأشقاء والأهل والأصدقاء المقربين..
- لماذا ؟
- لأن البرنامج يعمل بالطاقة الإيجابية للمتحدثين,الذي يتيح لهم الحديث خارج الشبكة , ويتراوح مدة عمل البرنامج من ثلاثه أيام لأسبوع واحد فقط من تاريخ الوفاة حسب قوة الطاقه الإيجابيه بين الأحباء , وبعد أن تضمحل الطاقه الإيجابية للمتوفي, لا يمكن الإتصال به بعد ذلك.
- ولماذا صورتك غير واضحة هكذا ؟
- لإن بيننا حاجز كالزجاج المعتم لا نستطيع ان نري بعضنا بوضوح من خلاله , عموما» تجري إدارة الفيس بوك ابحاثا» لتحسين البرنامج.
تعددت الجلسات بينهما لمدة ستة أيام قال لإبنه فيها: - انني أخاف من البقاء بمفردي !! .. أحتاج لأن أشعر بكائن بجانبي يستطيع الحديث عن أي شيئ.. أشعر بوجود روح حية لشخص إلي جانبي ..سأرحل بعيدا بآلامي الغامضة والخفية ..في الحقيقة , أنا مرعوب لأنني لا أفهم سببا لخوفي !!..
- أفرح بزيارتكم حقا أشاهدكم من ناحيتي أسمع حديثكم أود أن أمد يدي لأمسح دموع الحزاني أو أربت علي كتف المفتقدين لكن النظام هنا صارم يمنع التلامس , لكن يسمح لنا بين الحين والحين الخروج لزيارة احبائي فقط في أحلامهم .
- بعد ما رأيته أدركت أنني أضعت الكثير من لوم المشاعر أو الأشخاص وفي النهاية الكل سواء , إذا قدر لكم سفرا كسفري، ستدركون انه لا شيئ يستحق العناء سوي أنفسكم وهي الشئ الوحيد الذي تنسونه في خضم إنشغالكم..
- آه لقد تذكرت .. يوجد بدرج سحري في الرف الأعلي بخازنة ملابسي حقيبة جلديه بها ثلاثة ملايين دولار وعدة شيكات, لم يكن هناك وقت لإيداعهم في البنك , فقط إضغط علي علامة النجمة بهاتفي المحمول بالقرب من الرف لتحصل علي الحقيبة ..
- سلم لي علي والدتك , زوجتي الحبيبة ,التي وقفت معي في أحلك ايامي , أحضرها من فضلك في محادثتنا القادمة.أخبرها أن الأمر ليس بأيدينا إطلاقا.. فوجودي علي الجانب الآخر كان قادما لا محالة..
إنتهت المحادثات لإنقطاع البرنامج عن البث ..
مرت أيام قليلة علي وفاة والده عندما إتصلت به زوجة عمه , وأخبرته وهي تنتحب أن عمه قد توفي بسبب الفيروس اللعين .. يا الله !! عمه الحبيب , الوحيد الباقي الذي يعرف أسرار الشركات وطريقة إدارتها.. حضر الجنازة وأسرع إلي منزله والي حاسبه الشخصي وبأصابع مرتعشه ضغط علي ايقونة الحساب الشخصي لعمه,أظلمت الشاشه ثم ظهر تنبيه : جاري إعادة البرمجة .. برجاء الإنتظار , تابع ما يجري علي شاشة الحاسب وهو يحس بسخونة في وجهه والتهاب في حلقه, مع سعال يعاني منه حديثا بين الحين والحين ….