بقلم: إدوار ثابت
ولم يكتف لافونتين بذلك في مقدمته الطويلة التي وضعها في بداية مؤلفه فكتب رأي أفلاطون Platon الفيلسوف الأغريقي (القرن الرابع قبل الميلاد) في إيسوب ، وتقديمه في رأيه على هوميروس ، فهو يقول : « من أجل هذه الحقائق أنأى أفلاطون هوميروس Homère الشاعر الأغريقي (القرن التاسع قبل الميلاد) عن جمهوريته التي أعطى فيها مكاناً مشرقاً لإيسوب ، فهو يرغب في أن يرضع الأطفال هذه الحكايات مع اللبن الذي يرضعونه صغاراً وهو يوصي المرضعات أن يعلمنهم هذه الحكايات ، لأننا قد لا نعرف أن التمسك بالحكمة والفضيلة يبدأن في وقت مبكر جداً “
“C’est pour ces raisons que Platon ayant banni Homère de sa République ya donné à Esope une place très honorable. Il souhaite que les enfants sucent ces fables avec le lait, il recommande aux nourrices de les leur apprendre car on ne saurait s’accoutumer de trop bonne heure à la sagesse et à la vertu. »
ونحن نلحظ هذه الجملة السريعة التي وضعها لافونتين في مقدمته ، والتي يلمح فيها إلى أفلاطون في جمهوريته ومقارنته فيها بين هوميروس وإيسوب من غير أن يوضح أكثر من ذلك أو يبرز لهذا التقديم مبرراً .
فالجمهورية يعرفها الذين يقرؤون في الفلسفة أنها أشهر مؤلفات الفيلسوف أفلاطون التي كتبها في القرن الرابع قبل الميلاد ، والتي تعرف باسمه .. جمهورية أفلاطون .. ويطلق عليها المدينة الفاضلة ، وهو يتخيل فيها المبادئ والأسس التي تنشأعليها أو التي لابد أن تنشأ عليها .
وهي حوار من عشرة كتب يتحدث فيه عن العدالة والنظام ، وطبيعة الدولة العادلة وكيف تبنى لتكون مجتمعاً مثالياً يقوم كل فرد فيه بعمله الخاص به ، ويشترك فيه الكل باخلاص فيتحقق فيه الخير والسعادة لأفراده .. فالعدل في رأيه هو المبدأ أو التوازن الطبقي الذي يسود المدينة ، كما يسود النفس ، فيسعى الإنسان فيه بالجدل dialectique لمعرفة الحقيقة ، لأن هذه الحقيقة لا تعرف بالعقل فقط وإنما بالقلب معه .
يتحدث أفلاطون في جمهوريته وفي حوار فلسفي عن أمور كثيرة ، عن الفضيلة والخير والحق والقوة والخيال والحب ، ويتكلم عن الأخلاق وعلم النفس والشعر والسياسة متأثراً فيما يقول بأستاذه سقراط Socrate (فيلسوف إغريقي في القرن الخامس قبل الميلاد) ويعارض في رأيه السفسطائيين (هم من يلتفون حول الحقائق ويغالطون فيها ويعارضون وكانوا في اليونان القديمة) الذين يقولون أن العدالة هي حكم القوى ولكنه يراها ترتبط بتنظيم المجتمع المثالي .
أما الملفت للأنتباه فهو أن أفلاطون يرفض الفن في مدينته لأن الفنانين في رأيه مقلدون وهم يخاطبون الغرائز فيدفعون الشعب إلى عدم ادراك الحقيقة ، وأنأى عنها الشعر والشعراء – على الرغم من أنه كان شاعراً لأن الشعراء مثلما يرى يمسون المشاعر وذلك يفسد الجماهير فتتأثر بها القرارات السليمة .
أما السياسة فله فيها رأي في الحكم والحكام ، فهو يرفض في جمهوريته أو مدينته نظاماً تسعى إليه الدول في العصر الحديث أو تذيعه وتؤكد من قيمته ، ويبتغيه بعض السياسيين والمثقفين وهو النظام الديمقراطي Democratic وهو شكل من أشكال الحكم و نظام سياسي تمارس السلطة فيه بممثلين من الشعب ينتخبهم الجمهور .
والديمقراطية Democratic أتت من اليونانية من مقطعينDemos اي الشعب وkratein أي يقود، وهو يرتكز على سيطرة الغرائز ويرفض معه النظام الديكتاتوري Dictatureأو الذي تتحكم فيه الأقلية المتسلطة فهو يراه يرهق الشعب ، ولكنه ينحاز إلى الأرستقراطية Aristocratieفيراها في الحكم هي الأفضل . والأرستقراطية هي فئة النخبة أو النبلاء ، وقد أتت من مقطعين من اليونانية هما ( Aristos أي الأفضل) و(Kratein أي يقود) فتترجم بذلك إلى حكومة أو سلطة الفضلاء أو أفضل قيادة .
أما الحكام فلابد في رأيه أن يكونوا من الحكماء والفلاسفة ، لأن الحاكم الفلسفي هو القادر على الحكم كما يرى ، وله في ذلك نظام أو أسلوب يبرز هؤلاء الحكام يتربي فيه الأطفال من صغرهم تدريباً خاصاً علمياً وثقافياً ونفسياً وبدنياً ، ومن يتفوقون منهم ويبدون كفاءتهم يستمرون فيما هم عليه فيتعلمون الحكمة والفلسفة ، أما غيرهم فتنسب إليهم الأعمال التي تلائم قدراتهم ، وتبث في نفوسهم قيمة عمل الخير ، فمن يعمله سيكافأ عليه ومن لايلتزم به سيجازى ، وتبدو في ذلك اللاهوتية في تهذيب الأفراد . أما هؤلاء الذين يتعلمون الفلسفة فما أن يكبروا حتى تختبر قدراتهم على قيادة المجتمع ويتبارون مع الذين سبقوهم في قيادته ، فمن يتفوق منهم يكون هو المؤهل والصالح للحكم ويكون مثل هؤلاء هم الحكام أو الملوك الحكماء والفلاسفة القادرون على أن يحكموا بالعدل . ومن ذلك يبدو أن النظام الذي يفضله أفلاطون في جمهوريته أو مدينته الفاضلة هو النظام أو الحكم الشمولي الذي يشمل الحكام وأفراد الشعب .
وهذا الذي يراه أفلاطون في جمهوريته هو تخيّل وطيف ، يعتقده أو يرغب فيه حتى يتحقق فيها ما يصبو إليه من مبادئ تزيد من قيمة الدولة ، حتى أن البعض نسب إليها أو ربطها بلفظ (يوتوبيا) .. فاليوتوبيا هي رواية أجتماعية وسياسية كتبها القديس الإنجليزي والسياسي الإنساني (توماس مور) في القرن السادس عشر يوضح فيها أفضل تأسيس أو دستور للمدينة المثالية أو الجزيرة وهذه المدينة ينتقد فيها الملكية الخاصة والنظام الملكي اللذين كان يلوّح بهما إلى إنجلترا وفرنسا في ذلك الوقت ، ويشرح النظام الإقتصادي والإجتماعي والثقافي والسياسي في هذه المدينة لتسود فيها الشيوعية المثالية ، فيراها هو ويراها غيرة مدينة متخيلة ، ولذلك أطلق عليها لفظ يوتوبيا Utopie وبالإنجليزية Utopia- وقد أتى هذا اللفظ من اللغة الإغريقية ومن مقطعين أثنين هما : (ou أي لا) و(Topos أي مكان) ولذا فهي تترجم إلى (لامكان) وشاع منها (الشيئ المستحيل تحقيقه – يوتوبيا) .
ولنرجع ثانية إلى لافونتين من غير أن ننساه ، وإلى ما قاله في مقدمته أن أفلاطون أنأى هوميروس عن جمهوريته وأعطى فيها مكاناً مشرفاً لايسوب . ونحن نخشى أن نقول أننا نعارض أفلاطون في رأيه أو نتحفظ فيه ، فلا نعرف ما المبرر الذي دفعه إلى أن يرفض هوميروس هذا الرفض في جمهوريته ولايضعه فيها ، على الرغم من أننا لانشك في أنه أعطاه أو كان يعرف حقه الأدبي .
فهوميروس الذي عاصر القرن التاسع قبل الميلاد هو من غير شك من أوائل الذين أبتدعوا العمل الأدبي في الأدب الأغريقي بل قد يكون أولهم والمنشئ الأول للأغريق في هذا المجال ، وهو المؤسس للشعر الملحمي الذي يبدو في ملحمتين من أشهر ملاحم التاريخ اللتين نظمهما في شعر رصين وبناء محكم تتضح فيه بلاغته الفنية وقدرته اللغوية وهما (الألياذة والأوديسا) وأبرز في أحداثهما قيم البطولة والشجاعة والحب والصداقة والإخلاص ورسم في شخصياتهما خصالها التي تسكن فيها ورغباتها التي تنبع منها .فالألياذة تحكى عن الحرب التي كانت بين بلاد الأثينيين ومدينة طروادة التي كانت بآسيا الصغرى . والملحمة تبدأ عندما تتعارك آلهات الأغريق القدماء الثلاث (هيرا Héra) آلهة الزواج وأثينا Athéna وأثينا (هي مينيرفا عند الرومان) آلهة الحكمة وافروديت Aphrodite (هي فينوس عند الرومان) إلهة الحب والجمال بعد أن ألقت بينهن ( أيرس ) آلهة النزاع تفاحة ذهبية وقالت هي للأجمل فاحتكمن إلى زيوس كبير الآلهة فقرر أن يحكم بينهن من يمر عليهن فيقبل نحوهن (باريس) أبن الملك(بريام) ملك طروادة فتغريه هيرا إن أعطاها التفاحة بأن تمنحه السلطة والقوة ، وتغريه أثينا بأن تمنحه الحكمة وتغريه أفروديت بأنها ستهبه أجمل نساء العالم فيعطى التفاحة لها . وينزل باريس ضيفاً على بلاد الأثينيين فيرى الفاتنة (هيلين) زوجة مينلاوس ملك أسبرطة التي أغرته أفروديت بها ، فتستهويه فيغريها فتخضع لأغرائه فيختطفها ويفر بها إلى طروادة ، فتهب جيوش الأثينيين وتبحر إلى طروادة بقيادة أجا ممنون ملك أرجوس ومعه مينلاوس وأوديسيوس أو أوليس بطل الأوديسا ملك أيثاكا ، وتشب المعارك بين الجيشين وبين أبطالهما لأسترجاع (هيلين) فتظل المعارك سنوات لم يستطع فيها الأثينيون أجتياز المدينة لأن أسوارها كانت قوية وأبوابها محصنة ، فيسعى اوديسيوس كما تقول الأسطورة المرتبطة بالملحمة إلى حيلة يصنعون فيها حصاناً خشبياً ضخماً الذي يعرف بحصان طروادة يختبئ فيه بعض المحاربين ، وتنسحب جيوش الأثينيين إل مكان ناء فيعتقد الطرواديون عندما يرون الحصان أنه وسيلة منهم ليعرضوا السلام معهم فيجذبون الحصان إلى المدينة على الرغم من معارضة (كاسندرا) أخت باريس التي كانت تمتلك موهبة التنبؤ لأن ذلك سيجلب لهم الدمار والشقاء فلم يصدقوها ويأخذون الحصان ، فما أن يأتي الليل حتى ينزل المحاربون الذين أختبئوا به ويتسللون منه ويفتحون الأبواب إلى جيوش الأثينيين فيهجمون على المدينة ويحرقونها ويدمرونها ويأخذون تلك الفاتنة التي دفعت إلى هذه الحرب .
أما الأوديسا فتحكي عن رجوع أوديسيوس إلى بلاده وتعرضه قبل أن يرجع إلى عراقيل قوية وخاصة بالبحر لأن (بوسيدون) إله البحر كان ضده وتمر سنوات على ذلك فإذا أمراء المدينة يطمعون في زوجته (بينيلوب)ويطلبون إليها أن تختار من بينهم زوجاً لها ، وعندما يلحون عليها ولاتجد مفراً تسعى إلى حيلة تخبرهم فيها أنها ستنسج بالخيوط نسجاً ما أن تنتهي منه حتى تنتقي من بينهم زوجاً لها رعاية لزوجها التي تظل ترغب في رجوعه ،فإذا هي تحل في الليل ما تنسجه في النهار . وتشفق أثينا على أوديسيوس فتستعطف زيوس كبير الآلهة أن يتيح له أن يرجع إلى بلده فيرجع متخفياً وينتقم هو وأبنه (تليماك) من هؤلاء الذين كانوا يطمعون في زوجته (بينيلوب) .
البقية في العدد القادم