بقلم: إدوار ثابت
ليس الأدب التمثيلي والأفلام السينمائية فحسب هما اللذان يتضمنان الصراع فهو في الفنون كلها وإن أختلف مفهومه الأكاديمي والعلمي كدراما فالأديب يضمنه في شخصيات عمله الأدبي . وإذا بدا في عمل مسرحي أو سينمائي تتحرك فيه الأحداث وتتفاعل فيما بينها فقد يختلف الصراع في الشكل فقط بناء على الأسلوب الذي يختص به الفن فالفنان يوضحه في الفن الذي يصدره فأدب القصة والرواية به مثل هذا الصراع ، فأنظر على سبيل المثال إلى رواية (كونت دو مونت كريستو) التي كتبها الأديب الكسندر ديما ، وهي من أهم رواياته التي ترجمت إلى أكثر من لغة ، فهي تحكي عن بحار يخدعه صديقان والمدعي العام للملك في الفترة التي كان يحكم فيها لويس الثامن عشر فرنسا بعد تنازل نابليون بونابرت عن الحكم ونفيه إلى جزيرة ألبا . فالصديقان ، أولهما يحسده ويحقد عليه بعد أن يتولى هو قيادة السفينة التي يعمل بها كقائد للبحارة وهو ما كان يرغب فيه صديقه ، والثاني كان يرغب في خطيبته التي يسعى للزواج منها . أما المدعي العام فقد كتب إليه الصديقان بوشاية منهما أن معه رسالة تهدد السياسة العامة فحقق معه واتهمه بموالاته لنابليون بونابرت فمزق الرسالة وسجنه ظلماً ليخفي أن الرسالة التي لم يعرف البحار محتواها ولم يكن له شأن بها كان سيعطيها إلى أب المدعي العام الذي كان من الموالين لنابليون . وفي هذه الرواية يحدث الصراع الداخلي في نفس البحار بعد أن يسجن لحيرته وعدم معرفته بجريمته وأن ما يحدث له هو ظلم لم يدرك مبرره . ثم يحدث الصراع الخارجي بين البحار وبين هؤلاء الذين خدعوه بعد أن يكشف له (الأب فارما) الذي كان معه بالسجن عن هؤلاء وبعد أن يهرب ويحصل على كنز كان الأب فاريا يخفيه بجزيرة مونت كريستو ، فيأخذ خفية لقب أمير مونت كريستو ويسعى إلى الانتقام منهم . وقد قدمت هذه الرواية على المسرح الفرنسي ونفذ منها بعض الأفلام الغربية . أما الأفلام المصرية فقد أنتج منها ثلاثة أفلام هي أمير الانتقام تمثيل أنور وجدي وإخراج بركات وأمير الدهاء تمثيل فريد شوقي وإخراج نفس المخرج بركات ودائرة الانتقام تمثيل نور الشريف وإخراج سمير سيف . وأنظر معها إلى الروايات المصرية ، ومنها رواية اللص والكلاب لنجيب محفوظ ترى هذا الصراع بين سعيد مهران وبين من يعمل معه بعد أن يخدعه هذا ويبلغ الشرطة عنه فيسجن ويتزوج من زوجته وسعيه للانتقام منهما ثم بينه وبين رؤوف علوان الذي علمه أن من حقه أن يسلب أموال الأغنياء فيتغير رأيه بعد أن يغدو صحفياً مرموقاً فيهاجمه ويثير الراي العام ضده . وقد نفذ من هذه الرواية فيلم مصري تمثيل شكري سرحان وشادية وكمال الشناوي وإخراج كمال الشيخ وفي رواية السراب تلمح هذا الصراع الداخلي عند شاب لم يكن قادراً لمحتواه النفسي على التعامل مع زوجته ومعاشرتها ، وقد أنتج منها فيلم تمثيل نور الشريف وماجدة ومن إخراج أنر الشناوي . والشعر فيه صراعات مختلفة في مضمونها ، ففيه الصراع بين الرغبة وبين الأحباط ، وبين الحرية والاستبداد بين الأشتياق والحرمان ، بين الأمل واليأس وبين اللقاء والهجر ، وينطبق ذلك على كل شعراء العالم في كل الأمكنة والأزمنة . ولكن الصراع فيه له وجهان ، الأول هو الصراع بين الشاعر في حصيلته الأدبية وبين التزامه بقواعد الشعر التي عليه أن يلتزم بها ، أما الثاني فهو اختيار ألفاظه وتوظيفها لتوضيح هذه الأحاسيس المختلفة . فالشعر الفرنسي تخضع قواعده أو القاعدة الرئيسية فيه للميزان الشعري ببيت القصيدة ، وهذا الميزان يخضع لما يسمى بالمقطع اللفظي Syllabe ، وهو يشابه التفعيلة في الشعر العربي العمودي وإن كانا يختلفان في الشكل ، والمقطع بشكل عام هو اللفظ أو الجزء من اللفظ الذي يحوي حرفاً صوتياً أو ما يطلق عليه بالفرنسيةVogelle مثلO أو A والبعض يسمون هذا الحرف وغيره بالعربية الحرف المتحرك ولو أخذنا بهذه التسمية فمن الأفضل أن نعرفه بالمحرك فهو الذي يحرك الألفاظ وينطقها فمثلاً L فقط لا تنطق بمفردها وإنما تنطق إذا أرتبطت بهاA فتنطق La .
والمقطع اللفظيTout هو من مقطع فقط أما Totalité فهي من أربعة مقاطع té, li,ta,to والميزان الشعري الفرنسي أو البيت الشعري يشمل عدداً مختلفاً من المقاطع يبدأ من مقطع فقط ثم أثنين وهو يسمى Monossyllabe ثم مقطعين Dissyllabe إلى أثنى عشر مقطعاً ويسمىAlexandrine وهذا كثير الشيوع في الشعر لأن طوله يعطي للشاعر الحرية في توضيح مشاعره وأحاسيسه .
أما القافية Rime فهي بشكل عام ثلاثة أنماط فقد تكون بين البيت الأول والثاني وتتغير فتكون بين الثالث والرابع وتسمى المنبسطة ويرمز لها بالحروفAABB أو بين البيتين الأول والثالث وبين البيتين الثاني والرابع ABAB وتعرف بالمتقاطعة ثم النمط الثالث الأول والرابع معاً والثاني وما يليهABBA وتعرف بالمتعانقة .
وقد يشذ الشاعر عن هذه الأنماط فيضع القافية كما يرغب فعندما يقول الشاعر الفرنسي (لامارتين) الذي عاصر القرن التاسع عشر في قصيدته المشهورة البحيرةLe Lac وقد ألتزم في أبياتها بالميزان الذي يحوى أثني عشر مقطعاً في الثلاثة أبيات الأولى وبميزان ثانيٍ يتكون في البيت الرابع من ستة مقاطع وهو يسمىHexamètre وهكذا في كل القصيدة التي تأخذ شكل الرباعيات أما القافية فهي المتقاطعة ABAB فهو يقول وكأنما يحاكي البحيرة ويشهدها على ما كان بينه وبين حبيبته : أترين .. لقد جئت الأن وحدي أجلس على هذه الصخرة التي رايتها تجلس عليها ، وكنت تنسابين على جوانبها المفتتة ، والرياح تنثر رغوة أمواجك على قدميها المعشوقتين . فهو في صراع بين حبه وحنينه إلى محبوبته وبين لوعته وأساه من فراقها فوظف في ذلك الإحساس تلك الصورة الشعرية الرقيقة . وعندما يقول الشاعر الفرنسي دو موسيه في قصيدته الأماني العقيمة Les voeux stériles يحث فيها الشعراء وهو بالطبع يطبق ما يقوله على نفسه ، أن لا ينحطوا بتفكيرهم في زمن لايقدر الناس فيه القيمة الفنية والرقيقة للشعر وما يبعثه في نفس الشاعر من الأرق والشدة حتى يبرز ما يثور في نفسه وأن لايقلقهم ما يرونه من حولهم ولذا فهو يرى الشاعر بائساً لصراعه بين ما يسعى إليه وبين ما يلحظه بالبيئة التي تحيط به عندما يقول : أيها الشاعر البائس .. ما دامت هذه مهنتك ولاسيما في هذا الزمن العاصف حيث تكون الأفواه صامتة بينما تتكلم السواعد ويختفي الخيال كحلم بين ضجة الحركة فعلى الأقل لا يقلقك هذا الدجل المغطى بقناع مقزز فتنحط بتفكيرك معه فهو في صراع بين هذا الخيال الذي ينبعث في نفس الشاعر وما يشعر فيه من اليأس والتقيد حتى ينظم قصيدته وبين البيئة المادية التي لا تأبه بما يأتي به ويبدعه ومع ذلك فهو يحثه على أن لا يقلق ولا ينحدر إلى هذا الذي يراه جدلاً مقنعاً . أما الشعر العربي فقواعده ترتبط في الشعر العمودي ببحور الشعر العربي وتفعيلاته ، وترتبط في الشعر المتحرر من هذه البحور بتناسق الألفاظ وما تنتجه من إيقاع موسيقى يبدو في القصيدة . والصراع فيهما ينشأ بين الشاعر وبين التزامه بهذه القواعد وتوظيف حصيلته الأدبية لأبراز ما يشعر به ، أما الأحاسيس التي تبدو فيه فلا تختلف بأختلاف الشعراء في كل مكان وزمان. فالشعر الجاهلي ، وبصرف النظر عن شك طه حسين في انتمائه إلى العصر الجاهلي ورؤيته أن هذا الشعر منحول قد نظم بعد هذا العصر بعوامل مختلفة اجتماعية واقتصادية وسياسية وعقائدية بصرف النظر عن ذلك ففيه تلك الصراعات فامرؤ القيس يقول في معلقته :
أفـاطم مهـلاً بعض هـذا التــدلل وإن كنت ازمعت صِرمي فأجملي
أَّغّــَركِ مني ان حبــكِ قــــاتلي وإنكِ مهما تأمري القلب يفعلِ
فأزمع الأمر وعليه وبه سعى إليه ، والصرم هو الهجر ، وليس من المعروف لماذا لم يقل الشاعر بدلاً من صرمي هجري فهي ارق وأسهل في توضيح المضمون ولا تؤثر في وزن البيت ، ولكن يبدو أن إختياره هذا كان له في نفسه مبرر ، فالصرم هو الهجر القاطع ، تقول صُرم الرجل اي كان جلْداً قاطعاً في أمره ، أما الهجر فهو البعد أو النأي ففضل لذلك هذا الإختيار . والشاعر في هذين البيتين يمسه صراع داخلي بين حبه وعشقه لمحبوبته وبين دلالها الذي يرغب في أن تتمهل فيه ولا تتعجل ، وخوفه من أن تهجره ، فإن سعت إليه فلتجمل أي تتأنى وتتئد . ثم يسألها وكأنما يؤكد ما يشعر به ومما يوضح أساه ولوعته من هذا السؤال فيقول لها هل في سعيها هذا قد غرها حبه فطمعت وتجرأت عليه وقد عرفت أن عشقه لها يكاد يقتله وأن قلبه ينقاد إليها فكل ما تأمره يفعله . وعلى الرغم من أن إختيار لفظ (القلب يفعل) ينأى عن محتوى السلوك عند الإنسان فالقلب من الناحية الشعورية يشعر ولا يفعل مع ارتباطه بالعقل والنفس ، ولكن يبدو أن الشاعر قد ضمنه بيته الشعري على اساس أن القلب هو الدافع لسلوك الإنسان .. ومهما يكن في ذلك فهذا يدل – سواء أحسن أو أخطأ – على صراع الشاعر في انتقاء الفاظه ، وفي توظيفها لتوضيح أحاسيسه فقد يخطئ في انتقائها وقد ينجح وقد يضطر إليها .
البقية في العدد القادم