بقلم: محمد منسي قنديل
بفعل المصادفة البحتة اكتشف أحد الرعاة من قرية “القرنة” ضياع ماعز صغيرة من قطيعه، كان يرعى بالقرب من الدير البحري في الضفة الغربية للنيل، في أرض طيبة القديمة، مكان مليء بالمرتفعات الصخرية، تحيط بالمعبد الذي لم يكن شهيرا بعد تلال من الرمال توشك ان تغرقه، تسلق الراعي المرتفعات دون أن يجد أثرا ظاهرا للماعز، ولكنه وسط الصمت المخيم استطاع ان يسمع صوتها ضعيفا واهنا، واصل البحث حتى وجد فتحة صغيرة تؤدي إلى حفرة عميقة وسط الصخور، وفي العتمة لمح عنزته الصغيرة، كان يمكن أن يتركها، ولكنه خشي أن يخصم صاحب القطيع ثمنها من أجره الضئيل، عاد للقرية سريعا واحضر حبلا طويلا، ربطه حول صخرة ونزل للحفرة، وهناك لم يجد العنزة فقط، ولكنه وجد سردابا طويلا وممتدا، مليئا بالتوابيت الرخامية الضخمة، أدرك أنه قد وصل إلى خبيئة مهمة، ولكن ما يراه كان فوق قدراته، وعليه أن يلجأ طالبا للمعونة من أفراد عائلته “آل عبد الرسول”، أشهر تجار الآثار المسروقة في الأقصر.
مع الظلام انزلق افراد العائلة إلى الحفرة، كشفوا أغطية التوابيت للمرة الأولى منذ ثلاثة آلاف سنة، كانت كثيرة ولكن الأخ الأكبر أدرك بخبرته أن بينها على الأقل ثلاثة عشرة تابوتا ملكيا، كل مومياء فيها تقبض بكفها على صولجان من ذهب، لم يجرؤ أحد من القرويين أن يمد يده ليأخذ اي قطعة من الحلي رغم أنها كانت تتألق تحت ضوء المشاعل، ولكن الأخ الكبير أمرهم في حزم ان يخرجوا جميعا، وأن يضعوا على الفتحة صخرة ضخمة من الصعب تحريكها، وفي البيت أخرج عبد الرسول المصحف وجعلهم يقسمون على عدم البوح بسر الخبيئة حتى ولو انطبقت السماء على الأرض، وجرى الاتفاق على خطة لتقسيم الغنائم، لن يستخرجوها دفعة واحدة، فقط قطعة أو اثنين في كل مرة ، وستباع لشخص موثوق به هو القنصل “يوسف آغا”، كان هذا الرجل ظاهريا قنصلا لبعض دول أوربا، وفعليا كان مهربا ماهرا للآثار، صلاته وثيقة بأشهر متاحف العالم مثل اللوفر والمتروبوليتان، وبالأثرياء الذين يهوون العاديات المصرية.
وهكذا بدأت عملية النهب المنظم لخبيئة الدير البحري، واستمرت لشهور طويلة، تدفقت الأموال على الأسرة الفقيرة، كان للأخوة عبد الرسول النصيب الأكبر، ولم يشك حراس الآثار بالأقصر في شيء، ولكن الشك جاء من مكان بعيد، فقد كان “جاستون ماسبيرو” مدير الآثار المصرية يقضى الصيف كعادته في أوربا، وفوجئ بظهور كمية كبيرة من الحلى الأثرية النادرة في الأسواق وفي واجهات المتاحف، كانت قطعا فريدة من نوعها، لا يوجد لها نظير إلا في الأساطير القديمة، حين تفحص نقوشها وجدها تنتمي للكثير من الملوك والملكات، عالية القيمة بطريقة مدهشة، وادرك ماسبيرو أن هناك مقبرة أو أكثر قد تم اكتشافها سرا، مقابر عذراء لم يتم فتحها من قبل ومحتشدة بكل هذه الحلي القيمة، عاد إلى مصر سريعا، لكنه لم يذهب إلى الأقصر حتى لا ينتبه اللصوص لوجوده، قرر أن يرسل مساعده “أميل بروجش” أو برغش باشا دون صفه رسمية، حتى أن المسئولين عن حماية الآثار في الأقصر أنفسهم لم يكن يعرفون بوجوده، مجرد سائح يهوى جمع الآثار ويدفع أي ثمن في مقابلها، ولفت هذا أنظار التجار واللصوص في الوقت نفسه، ولكنه ظل يتجول على مدى شهر في البر الغربي دون ان يصل لشيء، ثم أوقعته المصادفة على واحد من فلاحي “الجرنة”، عرض عليه عدة لفائف أصلية من البردى، ودفع له “بروجش” ثمنا مجزيا، ولكنه طلب منه شيئا أكثر قيمة حتى يدفع له أكثر، كانت الحلي الثمينة تحت أمرة الاخوين عبد الرسول، ولكن الفلاح ظفر بتمثال جنائزي استطاع أن يخبئه في ثيابه وهو يتجول معهما في السرداب، كان هذا هو الخيط الذي يبحث عنه “بروجش” ، وقادته تحرياته إلى الحبل السري الذي يربط بين الأخوين عبد الرسول والقنصل يوسف آغا والذي عن طريقه تتدفق القطع الأثرية إلى أوربا، المشكلة أنه لم يكن يستطيع القبض على الأخير بسبب حصانته الدبلوماسية، ولكن بمساعدة حاكم قنا “داود باشا” استطاع القبض على الأخوين عبد الرسول، وكان الباشا تركيا عنيفا، عرض الأخوين لشتى صنوف التعذيب ليعترفا، أخضع كل رجال القرية للتحقيق، ولكنهما شهدا في صالح الأخوين، وأكتشف الباشا ان الاخ الأصغر يمكن أن يكون هو الحلقة الأضعف، فأفرج عن الأكبر وابقاه، ومارس ضده دورة اخرى من التعذيب، لدرجة أنه كان يطلق النار تحت قدميه، ولكنه الأخ الأصغر ظل صامدا، وأفرج عنه أخيرا ولكنه خرج من السجن محطما، يرى الباشا في كوابيسه طوال الليل، وكان غريبا أن يرى اخوه الأكبر وبقية اهل القرية يمارسون رحلات السرقة بشكل عادي، لا أحد يقدر تضحيته ولا الألم الذي تحمله حتى لا يشي بأحد منهم، وكنوع من التعويض طلب من أخيه حصة أكبر من عائد البيع، ولكن الأكبر رفض، فالعيون تترصدهما والدخل قد انخفض كثيرا، واستعر الخلاف عنيفا بين الأخوين، ودماغ كل واحد منهما أنشف من الآخر، ووجد الأصغر نفسه يسير بقدميه إلى قنا، حيث يوجد الباشا الذي كان يلاحقه في كوابيسه ويعترف بكل شيء.
أنفضح سر الخبيئة أخيرا، وتدفقت قوات الأمن على المكان يتقدمهم “بروجش” ، هبط إلى السرداب الصخري ليجد التوابيت متراصة، محفور على كل غطاء اسم الملك الذي يرقد بداخله، أعظم ملوك التاريخ ، أحمس محرر مصر من الهكسوس، رمسيس الثاني مؤسس أكبر امبراطورية، تحتمس الفرعون الاسطورة، سيتي الأول صاحب المسلات، أهينوا كلهم ، سرقت قلائدهم ونزعت الصولجانات من أكفهم، وفصلت رؤوس البعض عن أجسادها، ولكن بروجش ظل مذهولا، يرى الملوك الذين كانوا مجرد نقوش على الجدران وقد تجسدوا أمامهم، كانت المقبرة تخص الفرعون أمنحوتب الثاني، ولابد أن الكهنة قد جمعوا كل هذه الأجساد في مقبرته خوفا من اقتحام اللصوص، خاصة في زمن الاضطراب عندما خرج ابنه اخناتون عن دين اسلافه وتوجه للشمس كإله أوحد، أخرج العمال التوابيت من خلال الفتحة الضيقة، ورست دهبية الحكومة “المنشية” في النهر أمام الدير البحري وتم نقل التوابيت إليها في مشهد جنائزي مهيب، تراصت أجساد والملوك الثالثة عشرة بجانب بعضها إضافة إلى 39 تابوتا لم يحدد من فيها بعد، خرج أهالي القرية جميعا، واتشحت النساء بالسواد، وحين أطلقت الذهبية صفارة الرحيل ارتفعت أصوات العويل والبكاء، كانوا يودعون ملوكهم ومصدر رزقهم في الوقت نفسه، وواصلت الذهبية طريقها للقاهرة إلى المتحف المصري.
لماذا نتذكر هذه القصة الآن رغم أنها حدثت في عام 1853 ، ومنها استوحى شادي عبد السلام “المومياء”، أهم فيلم في تاريخ السينما العربية، نتذكرها لأن سرقة الاثار لم تتوقف حتى الآن، ولأنها زادت عن حدها الطبيعي واصبح كل من له علاقة بالآثار متهما فيها، بدءا من الوزير حتى الغفير، إلى حرم رئيس الجمهورية السابق، ولأن اليونسكو أعربت عن قلقها من ارتفاع وتيرة السرقة لحد يهدد هذا التراث الإنساني بالتلف، وطالبت اليونسكو الدولة المصرية لتقوم بدورها من أجل حماية هذه الآثار، فهل تفيق الدولة وتفعل ذلك، أم أنها تستسلم لأصوات حفنة المتعصبين السلف الذين يرفضون هذا التراث؟