بقلم: د. حسين عبد البصير
مدير متحف الآثار والمشرف على مركز
د. زاهي حواس للمصريات-مكتبة الإسكندرية
أثارت رواية الكاتب أحمد مراد «أرض الإله» زوبعة كبيرة حول ماهية فرعون الذى زامن سيدنا موسى عليه السلام وقد قامت الرواية على هذه الفرضية. وللرد على مزاعم تلك الفرضية غير العلمية والتى تخلط عددا من الأمور بشكل غير علمى أو منطقى أو منهجى على الإطلاق، والتى لا تقوم على أى أساس علمى ولا يدعمها أى دليل أو مصدر أثرى أو أى مرجع علمى غير الربط بين عناصر عدة غير متآلفة من التاريخ المصر القديم والقرآن الكريم وكتابات علماء المسلمين القدامى والعهد القديم من الكتاب المقدس دون أية أسانيد علمية، وبنيت تلك الفرضية على تأويلات لغوية بحتة بناء على اللفظ الأعجمى الممنوع من الصرف فى اللغة العربية «فرعون»، أرد بما يلى:
فى البداية، أود أن أقول إن لدى عددا كبيرا من المصريين وغيرهم اعتقاد بأن «الفرعنة» والتجبر والاستبداد والديكتاتورية والطغيان صفات حكام مصر منذ عصر الفراعنة، ويطلقون عليهم جميعا لقب «فرعون» وجمعهم «فراعنة» دون أدنى استثناء. وكذلك يطلق المصريون أنفسهم وغيرهم على الشعب المصرى كله لفظ «فراعنة». وجاء هذا الاعتقاد نتيجة ما ورد فى الكتاب المقدس (العهد القديم) والقرآن الكريم عن طغيان وتجبر وتكبر وتأله الملك المصرى القديم الذى أطلق عليه لقب «فرعون» دون أن يُسمى، وعاش فى عهده نبى الله موسى عليه السلام.
وقد كان الحاكم فى مصر القديمة من بداية توحيد مصر -حوالى عام 3000 قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام أى منذ حوالى 5000 سنة- رأس الدولة والسلطة المركزية متمثلة فى جميع السلطات التشريعية والحربية والتنفيذية فضلا عن رئاسته للسلطة الدينية والكهنة. وكان الملك المصرى يحكم مصر نيابة عن آلهة مصر الكبار باعتباره ابن الآلهة والوريث الشرعى لهم على الأرض. وهكذا كان الحاكم المصرى مصدر السلطات مجتمعة.
وجاء لفظ «فرعون» من القصر الذى كان يعيش فيه الحاكم المصرى القديم. وكان يطلق عليه «بر عا» أو «بر عو» وهو تعبير مصرى قديم مشتق من مقطعين وهما «بر»، وهو اسم يعنى «البيت»، وصفة هى «عا»، وتعنى «الكبير» أو «العظيم» نسبة إلى الحاكم. وكان يستخدم هذا المسمى حين الإشارة إلى الحاكم ومقر حكم الدولة المصرية القديمة منذ عصر الدولة الحديثة (أى من حوالى 3500 سنة). ثم تحول لقب «برعو» إلى «فرعو» فى اللغة العبرية، واضيفت «النون» فى اللغة العربية فأصبح «فرعون». وكان يستخدم لفظ «فرعون» استخداما إداريا فقط، ضمن صفات الحاكم المصرى العديدة. ونظرا لظهور هذا الوصف الملكى المصرى الجديد منذ عصر الدولة الحديثة؛ لذا لم يستخدمه القرآن الكريم عندما أشار إلى حاكم مصر فى عهد سيدنا يوسف عليه السلام، وأطلق عليه لفظ «الملك». وهذا أقرب إلى أدبيات العصر الحالى عندما تٌطلق لفظة «البيت الأبيض» عند الإشارة إلى رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وسياساته.
ومع التسليم بما جاء فى الكتب السماوية عن فرعون موسى عليه السلام؛ فإنه لا يجوز اتهام كل حكام مصر الفراعنة بنفس صفات الطغيان والتأله والتجبر التى كان عليها ذلك الفرعون؛ فكان من بينهم الصالح والطالح والمؤمن والكافر والقوى والضعيف والعادل والظالم. ولايمكن بأى حال من الأحوال إطلاق لقب «فراعنة» -الذى كان يطلق على الملوك الفراعنة منذ عصر الدولة الحديثة فقط- على كل المصريين؛ لأنه من غير المنطقى أن يطلق لقب «قيصر» -الذى كان يخص الإمبراطور الرومانى- على كل الرومان أو الروم.
وهكذا فإن لقب «فرعون» لم يكن يدل على تجبر كل الحكام المصريين، وكذلك لم يكن يدل على شعب معين أو جنس محدد؛ وإنما هو وصف إدارى يشير إلى الحكام المصريين منذ عصر الدولة الحديثة وإلى نهاية تاريخ مصر الفرعونية فقط فى عام 332 قبل الميلاد عندما احتل الإسكندر الأكبر مصر وتحولت إلى مستعمرة يحكمها الغرباء لقرون عديدة.
ولم يكن الهكسوس من العرب كما تزعم تلك الفرضية. واحتل الهكسوس شمال مصر إلى مصر الوسطى فى الفترة من 1750 قبل الميلاد إلى 1530 قبل الميلاد فيما يعرف تاريخيا بعصر الانتقال الثانى. ولم يكن بين ملوكهم ملك يسمى فرعون. ولم يعش سيدنا موسى عليه السلام بينهم ولا فى زمنهم. وأسماء الملوك الخمسة لا يوجد من بينها «نب تاوى» وإنما «نبتى» أى المنتسب للسيدتين «نخبت» و»وادجيت». ولا يجوز الربط بين تفسيرات العلماء المسلمين القدامى لأسماء بعض الشخصيات، التى جاء ذكرها فى القرآن الكريم دون أسمائها، وبين الأسماء المصرية القديمة. ومن المعروف أن اللغة المصرية لم تفك أسرارها إلا فى عام 1822 فكيف للعلماء المسلمين القدامى معرفة الأسماء المصرية القديمة على نحو صحيح فى زمنهم البعيد من العصر الحديث؟ وأين مصادر هذا الزعم؟ وأين قال علماء المصريات هذه الفرضية؟ واللغة الآرامية ليست لغة الأعراب، ومن المعروفة إنها كانت لغة الشرق الأدنى القديم فى الألف الأول قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام، وأن اللغتين العربية والعبرية من اللغات السامية الغربية.
وفى النهاية، على أى كاتب يستخدم التاريخ المصرى القديم مسرحا لأحداث روايته حتى، وإن كانت خيالية، أن يتبع الحقيقة العلمية التى لا خلاف عليها فى العصر الذى يكتب عنه حين التصدى لأية لأية فترة تاريخية، ولايجوز إطلاق الأحكام والآراء دون وجود ما يدعم أية فرضية من دلائل أثرية، وأن الربط بين الدينى والتاريخى عادة لا يكون فى صالح الدينى الثابت فى مواجهة التاريخى المتغير وفقا لأحدث الاكتشافات الأثرية التى فى تزايد مستمر وتغير بشكل دائم، ويجب أن يصدق الكاتب مع قرائه.