بقلم: محمد منسي قنديل
ماذا بقي من اهم حدث في تاريخنا المعاصر؟ من ثورة 25 يناير؟
ذكرى لأيام من الغضب الساطع، اخرجت المواطن المصري عن صمته التقليدي وطواعيته للنظام، لحظة فاصلة بلغت فيها روح الوطن الحلقوم، بعد أن تهرأت شخصيته ودفعه حكامه خارج الزمن، حولوه إلى كائن هامشي يعيش عاله على التاريخ، وهو الذي كان واحدا من صناعه، يحكمه ديكتاتور عجوز، تعفنت مؤخرته من طول فترة جلوسه على مقعد الحكم، وبات يمتلك اجهزة أمن تقمع دون رحمة، وتنتهك دون مساءلة، وطن يعيش اهله في مناطق عشوائية يطلقون عليها مدن، وحفريات يعتقدون أنها قرى، تتآكل رقعته الزراعية فلا تنتج ما يكفي غذاءه، ويبيع مؤسساته الصناعية بالجدك ليعيش بعد ذلك على قروض متراكمة، اصبحنا جميعا نعيش في مرحلة الصفر.
هبت الثورة حنى ترتفع بنا قليلا عن هذا المستوى المتدني، وكان شعارها الأول «ارفع رأسك أنت مصري»، لنزع الاهانة عن كاهل المواطن الذي يأكل التراب، واعادة الاعتبار له بعد أن جرى اهماله طويلا، وكانت مطالب الثوار واضحة وبسيطة، عيش حرية عدالة اجتماعية، لم يطلبوا أكثر من الاساسيات التي تحفظ كرامتهم الانسانية، ورغم أن الرئاسة قد انهارت، وقوات الأمن قد تخاذلت، إلا أن المطالب ظلت على الدرجة نفسها من التواضع، وظلت الثورة على الدرجة نفسها من النقاء دون ان تطالب حتى بثمن الدم، دم الشهداء العزل الذين غدر بهم في الأيام الأولى للثورة، كانوا يعرفون أنهم يقدموا ارواحهم لهذه النيران الآخذة في الاشتعال، وكانوا يعرفون أيضا مدى قسوة قوات الأمن، ففي الثورة الاولى التي هبت عام 1919 قتل رجال الأمن المصري أعدادا من عمال العنابر اضعاف الذين قتلوا ببنادق الاحتلال البريطاني، خرج شباب يناير وهم يعرفون مدى شراسة النظام الذي ينتظرهم، والثمن الفادح الذي سيتحتم عليهم دفعه.
ورغم ذلك فقد أخذت الثورة مسارا حزينا، لم تفشل، ولم تنكص عن اهدافها، ولكن جرى تشويهها بشكل لا يصدق، لم يفعل ذلك الغرباء أو الاعداء، ولكن اهلها هم الذين انقضوا عليها كالصقور الجارحة، تمزيقا وتشويها، مارسوا عليها أقدم الاختراعات المصرية، والذين يعتقدون أن مصر لم تقدم للعالم أي اختراع هم مخطئون، فقد قدمنا ثلاثة منها، واحد منها هو الافضل في التاريخ، والثاني هو الأسوأ، والثالث يقع بينهما في مرحلة ما.
الاختراع الاول هو الزراعة، وهل هناك أفضل منها، نقطة البداية في الحضارة الانسانية، بفضلها انتقل البشر من مرحلة جمع الطعام إلى مرحلة انتاجه، وبذلك استقر الأقوام الرحل في مكان واحد، وعرفوا دورة الغرس والحصاد، تماما مثل دورة الميلاد والموت، ولم يكن التعامل مع نهر النيل سهلا، فقد كان نهرا بريا قادم من اعماق افريقيا، تسبح فيه التماسيح وافراس النهر، وتنمو على شطآنه ادغال من الاعشاب البرية والأشواك الجارحة، واستغرق تنظيف هذه الاحراش عقودا طويلة حتى تحولت إلى ارض صالحة للزراعة والاقامة، ولكن مشكلة المصري القديم أنه ادار ظهره للصحراء الممتدة خلفه، لم يشأ التوسع حتى لا يبتعد عن النهر الذي اصبح لصيقا به، بل عبدا له في الواقع، يتحمل تقلباته القاتلة، فهو احيانا يغيض وتقل مياهه حتى تصاب القرى بالجفاف والجوع، واحيانا تعلو مياهه وتتحول إلى فيضان هائل يدمر البيوت ويغرق أهلها، وهكذا عاش مهددا دائما، لم يصل به الحال إلى درجة الشبع والرخاء، فالمجاعات والاوبئة كانت تهدده دائما، كما أن الغزاة الرحل لم يتوقفوا عن محاولة الاستيلاء عليه، وكان يجب ان تكون حكومة تحاول تنظيم كل هذه الأمور، ولكنه هذه الحكومة كانت دائما تتجاوز دورها وتكتسب قوة ذاتية تجعلها تتحكم في رقاب اهلها بدلا من أن تقوم بحمايتهم.
الاختراع الثاني، الأسوأ، هو الحكم المطلق، لقد حتم النهر الواحد الذي يمر على الآخر قبل أن يمر عليك على المصري القديم أن يخضع مبكرا لحاكم ينظم العلاقة بين الأطراف، ولكن حكام مصر كلهم تجاوزوا هذا الدور، تحولوا إلى انصاف آلهة، تزوج الرجال اخوتهم من الاناث حتى يحافظوا على نقاء دمائهم، اكسبوا انفسهم نوعا من القدسية بحيث لا يمكن انتقادهم أو الثورة عليهم، وبدلا من بناء الجسور وحفر القنوات ومقاومة الصحراء انشغلوا ببناء الأهرامات وحفر المقابر في انتظار العالم الآخر، وحتى عندما انتهى الرعيل الاول من الفراعنة وجاءت سلاسل طويلة من الحكام الاجانب، اكتسبوا نفس الصفات واقاموا داخل القلاع دون مبالاة بعذابات الناس اسفل القلعة، لم يعترفوا يوما بقانون، وكانوا دائما على عداء بأي دستور مكتوب، وجاءت ثورة 25 يناير حتى تنهي آخر أثار هذا الحكم المطلق، كان مبارك هو آخر الفراعنة أو هكذا آمن الثوار، فقد لبث على العرش ثلاثين عاما كاملة دون أي انتخابات حقيقية، ومازلنا لم نعش أي انتخابات حقيقية حتى الآن، فنحن نخرج من استفتاء لندخل في آخر مع تغيرات طفيفة في قواعد اللعبة، المكسب الوحيد من الثورة هو نص صغير في الدستور يحدد مدة أي حاكم، ومع ذلك فإن انصار الحكم المطلق لازالوا اقوياء، يحاولون التخلص من هذا النص الصغير، من جهة كنوع من باب النفاق للنظام وايضا كنوع من الاستنامة لتقاليد العبودية القديمة.
الاختراع الثالث هو التشويه، اختراع قديم مازال مستمرا حتى لحق بثورة يناير، بدأ هذا الاختراع مع بعض ملوك الفراعنة الذين حاولوا إزالة نقوش الملوك الذين سبقوهم من على الجدران، كان الأمر يتم بطريقة غاشمة احيانا عندما يمحو الملك كل ما يخص سلفه بالكامل، وأحيانا بطريقة ذكية عندما يقوم بتحويل النقوش لصالحه، ينسب لنفسه كل الفضائل إن كانت ثمة فضائل، وهذا ما فعلناه مع ثورة يناير، محونا آثارها وحولناها من ثورة شعبية إلى مؤامرة عالمية، وتم تبرئة كل رجال النظام القديم ووضع كل الذين ناصروا الثورة في السجون، ولم يكن مسح رسوم الجرافيك التي خلفها الثوار على الجدران إلا دلالة رمزية على اتباع اسلوب المحو الفرعوني القديم، ثم تواصلت اساليب المحو وتم اختراع تاريخ مضاد، اشبه بقناع يخفي الحقيقة ويغلفها، وجرى تحميل الثورة ذنب كل المشاكل التي نعاني منها منذ مئات السنين، واصبحت الثوار هو العدو، وجاءت الذكرى السابعة ونحن نعتقد أن هذه الفترة هي الأسوأ في التاريخ المصري رغم أن الذين يحكمون الآن كانوا بشكل أو بآخر نتاج هذه الثورة، ورغم ذلك فهي باقية، علامة مضيئة وسط ظلمة القمع والحكم المطلق.