بقلم: محمد منسي قنديل
الجزء الأول
زواج سيء، يعقبه زواج أسوأ، فماذا يمكن ان تفعل ابنة تاجر الأرز وهي تطل من خلف المشربية على مجلس الرجال، عمائم وقبعات، وجوه ملتحية مائلة للسمرة، وأخرى منتفخة ومحمرة وحليقة، يتحدثون بألسنة مختلفة، عربية وفرنسية، ولكنهم يتحدثون عنها، عن الشرط الذي وضعته أمام ابيها، هذا الضابط الفرنسي الذي يريد ان يتزوج بها يجب ان يعلن اسلامه اولا، ويدون ذلك في وثيقة، الغريب أن الضابط وافق على الفور، لم يكن الدين، يعني له الكثير، الشرط الذي حسبته صعبا ومعجزا تبين انه اسهل الشروط، لم يكتف الضابط الفرنسي بجمع شيوخ رشيد ولكنه احضر أيضا شيوخا من الازهر لتكون الوثيقة شرعية معتمدة، ينتهي الكلام عندما ينهض الضابط الفرنسي واقفا، يردد خلف الشيخ الحمامي: اشهد ان لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، لهجته مضغمة ومتعثرة ، ولكنهم يطلقون التكبيرات العالية، يبتسم ابوها في تواطؤ، رأت هذه الابتسامة من قبل ، عندما عقد قرانها على الأغا التركي، وضمن مصلحته التجاريه المؤقتة، يتحدث الضابط الفرنسي، ويستمع الجميع إلى كلمات المترجم: قد غيرت اسمي منذ الآن، لم اعد جاك مينو النصراني القديم، ولكن عبد الله مينو المسلم الجديد، يعاودون الهتاف وينهض اخوها “علي” صائحا: بل أنت الشيخ عبد الله مينو، هكذا يهبه اللقب كما سيهبه أخته بالأريحية نفسها، أهم ما يميزه أن له أنف كلب، يشم رائحة مصلحته الخاصة اينما كانت، يعلم ان رشيد ستسلم قيادها له ولأبيها بسهولة، مثلما سلمت نفسها للفرنسيين دون قتال، وقابلتهم بالورود بدلا السلاح، عليها أيضا آلا تقاوم طويلا. كما حدث في المرة الأولى.
بعد ذلك بأسبوعين كانوا يجهزونها للزفاف، ساري عسكر فرنسيس رشيد كان متعجلا، يريد امرأة افريقية مختلفة في فراشه، يتم توقيع عقد الزواج في المسجد، وتكتب وثيقة يحفظها القاضي، زواجها الأول كان دون وثيقة، وكان الأغا التركي خشنا، لايصل إلى ذروته إلا بعد أن يضربها، ولكن الأمور تتم الآن بمزيد من الحفاوة، عندما تبدي ترددا يصيح فيها أخوها: آلا ترين ماذا يحدث لتجارتنا، الفرنجة يصادرون سفن الأرز ويأخذونها بلا ثمن تقريبا، عندما يكون ساري عسكر رشيد نسيبا لنا لن يجرؤا على ذلك، تصيح فيه: هذا ماقلتوه لي في الزيجة الأولى، كنت طفلة وقتها وارغمتموني على الزواج من هذا التركي، يقول وهو يشيح بوجهه: ايامها كان الاتراك هم الذين يحاكمون ويصادرون، الزمن يتغير والازواج يتغيرون، ينتهي الحوار دون أمل، وماذا إذا عاد الاتراك من جديد، لا أحد يجيبها، تشعر بثوب الزفاف ثقيلا على جسدها، تماما مثل وطأة الفرنجة على صدر البلد، حين اقبلت سفينهم لشاطئ الإسكندرية لم يقدر أحد على مقاومتهم، اكتشف الجميع أن القلاع كلها مهدمة مليئة بالثغرات، والمدافع صدئة ترتد منها القذائف لتصيب من يطلقها، ولكن عندما دوت مدافع الفرنسيس تردد صداها على طول الشاطئ، واصيب حاكم رشيد “عثمان خجا” بالرعب الشديد، ترك قصره وجنوده وفر هاربا، ودخل هذه الفرنسي الدميم وسط ثلة ضئيلة من الجند، كان يمكن أن يضيعوا في الحواري الضيقة لولا ان المدينة كانت مستسلمة أكثر من اللازم، تنتظر من يحكمها، جلس جاك مينو على نفس التخت الذي كان يجلس عليه “عثمان خاجا”، وأخذ يفكر بطريقته نفسها، وبدأ تجار المدينة وأعيانها يلتفون حوله، ويبادلونه الراي والمشورة رغم أنه لا توجد لغة مشتركة بينهم، ولكن من الذي آتي علي ذكرها أمامه، لا أحد يدري، ولكن منذ ان اشيع في المدينة أن الفرنسي يبحث عن زوجة محلية، يريد ان يجرب صنفا جديدا من النساء، لسنا بيضاوات ولا شاحبات، وقد سارع اهل المدينة بتزويج بناتهن العذارى الابكار، لم يبق إلا هي، تعاني من التجربة الأولى ولا تملك إلا أن تنتظر الثانية، تدوي الدفوف من مكان ما، ويصطف حرس الفرنسيس أمام دارهم، تمت مراسيم العرس، ولم يبق إلا ان يقودها إلى بيت زوجها، تنظر امها نحوها في ذعر، ويداري ابوها وجهه، ويصيح بعض الأهالي مشجعين، لا تعرف إن كانوا يهنئونها أم يسخرون منها، مبروك يازبيدة، ستصبحين ملكة رشيد، ومن يدري ماذا سيحدث بعد ذلك؟
كان بيت العرس يخص “عثمان خاجا”، مثلما كانت هي تخص أغا تركي سابق، كل شيء يتوارث، ولكنها لا تطيق وجه هذا الفرنسي المحتقن، يقترب من فراشها فتشيح بوجهها، يمسك جسدها حتى لا تسحبه بعيدا عنه، يتمكن من الاستيلاء عليها بسهولة ودون عنف، تلاحظ أنه مختلف، جسده معطر، ولمساته اقل خشونة، يهتم بجسدها كله وليس بذلك الجزء الصغير المخفي بين فخذها، يقبل كل جزء منه، ويهمس في اذنها بكلمات لا تفهمها، يستخدم لسانه جيدا، كلاما ولمسا، تدرب جيدا على أسرة غواني أوربا، ويعرف ان كل شيء مباحا في سبيل المتعة، لم يكن قويا مثل زوجها التركي الاول، ولكنه كان ماهرا، منفتحا بلا حدود، يعبث في مكامن جسدها لدرجة تبعث على الخجل، اصر على ان تتعلم الفرنسية لتفهم فقط ما يقوله لها وهما في الفراش، لم يكن هناك الكثير ليقال، كان جسدها خصبا، تلقى بذرته الأولى في تشوق، وسرعان ما انقطعت عادتها الشهرية، وأدركت أن كل الظروف السيئة التي دفعتها لهذا الزواج قد تحولت إلى شيء جيد داخل رحمها، ولكن الأمور لم تكن كذلك خارج فراشها..
كان جسد مصر كله يغلي، عاجز عن قبول هؤلاء الفرنسيس الكفرة، رغم أنهم استناموا طويلا تحت حكم العثمانيين المسلمين وتقبلوا منهم كل اصناف الذل والهوان، كأن عبوديتهم للترك قد استأصلت في نفوسهم، كانوا في مازق حاد من الفرنسيس، وكان نابليون وجنوده في المأزق نفسه، فبعد طول بحث في عرض البحر المتوسط، عثر الانجليز على سفن الأسطول الفرنسي راسية في ميناء أبوقير، وادركوا ان عدوهم اللدود نابليون الذي طالما دوخهم موجود في هذا الجزء من افريقيا، وأرادوا حبسه فيه إلى الابد، وعلى الفور قاموا بتدمير كل سفنه، صابوا عليهم نيران مدافعهم فلم يبقوا منها على كتلة خشبية تصلح للطفو، هكذا في اقل من نصف يوم تحول الفاتح العظيم إلى فأر محبوس داخل مصيدة صحراوية لا يوجد حوله إلا اناس يكرهونه، وتأكدت هذه الكراهية عندما ثاروا عليه، حاول اهل القاهرة اقتلاع جنوده من مدينتهم، ملأوا شوارعهم بالمتاريس، وخرجوا بأسلحتهم البدائية، سيوف وفؤوس وسكاكين وغدارات قديمة، ولكن نابليون كان يمتلك المدافع الفاتكة، نصبها فوق جبل المقطم واخذي يصلي المدينة بنار حارقة، اطاح بنصف مآذن القاهرة، وهدم أحياء بأكملها، ووضعت خيوله روثها على حصر الجامع الأزهر، وتعفنت الجثث دون ان تجد من يدفنها، وهدأت القاهرة بعد أن دفعت الثمن غاليا، ولكن نابليون لم يهدأ، لم يحل تدمير المدينة مشكلته، كان مازال فأرا محاصرا، ثم خطرت بباله أكثر الأفكار جنونا، أن يصعد شمالا في اتجاه فلسطين، ويقهر كل المدن التي تقف في سبيله، وصولا إلى الإستانة حيث يجلس السلطان العثماني، بعدها يستطيع النفاذ عبر دول أوربا، ويصنع أكبر امبراطورية عرفها التاريخ منذ ايام الاسكندر،