بقلم: د. حسين عبد البصير
خوفو في وادي الجرف
يعتبر اكتشاف برديات وادي الجرف اكتشاف القرن 21 في الآثار بامتياز!
بدأت البعثة الفرنسية بقيادة بيير تاليه العمل في وادي الجرف بالقرب من السويس منذ عام 2011. وكشفت عن آثار لميناء يعتبر الأقدم فى تاريخ الملاحة البحرية العالمية. وتم بناء الميناء على مساحة كبيرة. ومن خلال الأختام الطينية والبرديات والنقوش الصخرية التي تم اكتشافها في هذه المنطقة، أمكن تأريخ هذا الموقع بعهد الملك خوفو صاحب الهرم الأكبر بالجيزة.
وفى عام 2013 عثرت البعثة على مجموعة رائعة من البرديات عند مدخل مغارتين. وكانت البرديات مدفونة بين الكتل الحجرية التي تم استخدامها لإغلاق المغارة بعد الانتهاء من العمل. وافترضت البعثة أن تكون هذه المغارات كانت تستخدم كورش عمل ومخازن وأماكن سكنية. ويذكر تالييه أن هذه البرديات تؤكد أن هذا الموقع كان مستخدمًا في عهد خوفو، وأن فريق العمل الذي كان يعمل في الموقع هو نفسه الذي عمل في بناء الهرم الأكبر. في رأيي، فإن هذا يشير للقدرة العالية للجهاز الإداري للدولة في عهد خوفو.
إن أجزاء البردي المكتشفة تعد الأقدم في تاريخ الكتابة المصرية إلى الآن، ويصل عددها إلى حوالي 40 من برديات خوفو. والبرديات عبارة عن عدة مئات من قطع البردي بعضها يصل طوله لحوالي 80 سنتيمترًا. وهي أقدم برديات مكتوبة بالكتابة الهيراطيقية، وبها بعض أجزاء بالهيروغليفية مختصرة بتاريخ تعداد الماشية رقم 13 من عهد خوفو. وكان تعداد الماشية يتم مرة كل عامين، وهو يعنى أن التاريخ المذكور هنا هو العام 26 من عهد خوفو. ويظهر في النص في السطر الرأسي الأول «تعداد الماشية رقم 13»، واسم الملك الحوري في السطر الثاني (مچدو)، ثم اسم الملك التتويجى «النسوبيتى»، «خنوم- خو-إف- وى»، يليه اسم فريق العمل في الموقع، ثم يوميات العمل.
إن أغلب البرديات المكتشفة توضح توزيع الحصص اليومية للأطعمة التي كانت تستجلب من مناطق عديدة في دلتا النيل. والنص الوارد على البردية من النوع المحاسبي؛ إذ يتناول عملية توزيع حصص الأطعمة والمناطق المجلوبة منها، وهي منظمة في شكل جدول يظهر فيه اسم السلعة والمكان القادمة منه وكمياتها. وتظهر دون شك سيطرة الجهاز الإداري على شؤون البلاد بمختلف أنحائها وضواحيها بصورة مركزية ووفق تنظيم دقيق وواضح.
ومن أبرز البرديات المكتشفة في وادي الجرف مجموعة قطع يزيد بعضها في عرضه على 50 سنتيمترًا، تكتسب نصوصها أهمية كبيرة حيث إنها تقرير يومي بأنشطة أحد كبار الموظفين المسؤولين من العاصمة منف، وهو مسؤول عن أحد عن فرق العمل الفنية في الموقع، وهو المفتش «مرر»، والذي كان يقود فريق عمل مكونًا من عدد كبير من الرجال. وأمدت البرديات بمعلومات عن ثلاثة أشهر من حياة «مرر» الوظيفية، مما جعلنا نعرف الكثير من الأمور عن حياة الموظفين في عصر الأسرة الرابعة، ومنها قيام فريق العمل بنقل كتل الحجر الجيري من محاجر طرة على الضفة الشرقية للنيل إلى هرم خوفو عبر نهر النيل وقنواته.
ونص البردية يظهر فيه الشهر في شكل سطر كبير باعتباره عنوانًا، وتحته في أسطر رأسية خطوط تمثل خانات تفصل بينها، تبدأ برقم اليوم، وتحته في سطرين رأسيين، تقرير بالنشاط الذي أداه فريق «مرر» في هذا اليوم. ويشير كثير من الأنشطة إلى أعمال مرتبطة بالأعمال الإنشائية في الهرم الأكبر وعمليات قطع أحجار الحجر الجيري الجيد من محاجر طرة والمعصرة والتي كانت تستخدم في كسوة الهرم. وتشير اليوميات أيضاً لتفصيلات ووصف لعملية نقل الكتل الحجرية من موقع المحاجر، «را ستاو الجنوبية» و»راستاو الشمالية» لمكان إقامة الهرم عبر نهر النيل والقنوات والترع المرتبطة به. وتشير نصوص البردية إلى أن هذه الكتل كانت تستغرق عملية تسليمها عدة أيام لمنطقة «آخت خوفو»، وهو اسم هرم الملك خوفو.
وتشير تقارير «مرر» لمرور معظم الإجراءات التنفيذية بمركز إداري هو «را-شي-خوفو» والذي يبدو أنه كان مركزًا لوجستيًا تتوقف عنده فرق العمل قبل تسليم ما يحملونه في منطقة هضبة الجيزة. وتشير النصوص إلى أن هذا المركز اللوجستي كان تحت إشراف أحد كبار موظفي الدولة، وهو المدعو «عنخ- حاف»، وهو أخ غير شقيق للملك «خوفو»، وكان المشرف على كل الأعمال الملكية. وتؤكد هذه اليوميات أنه ربما كان يقوم بأعمال الوزير والمهندس المسؤول عن المشروع القومي لإقامة الهرم في مراحله الأخيرة. وبالتأكيد كان الهرم في مراحل إنشاءاته الأخيرة مع اقتراب نهاية حكم الملك «خوفو». ويبدو أن ما يفسر وجود مثل هذه التقارير المهمة في وادي الجرف أن نفس فرق العمل التي كانت تعمل في البرامج الإنشائية للمقابر الملكية كانوا مسؤولين عن مشروعات الدولة الأخرى، ومنها أعمال وادي الجرف. وربما كانت هذه الفرق الموجودة في الموقع معنية بإحضار النحاس من مناجم النحاس بجنوب سيناء، وهو النحاس المستخدم في تصنيع أدوات كانت تستخدم في الأعمال الإنشائية بالهرم. ويعد ميناء وادي الجرف من أهم الموانئ في مصر القديمة حيث انطلقت منه الرحلات البحرية لنقل النحاس والمعادن من سيناء إلى الوادي. وبعد ذلك قام “مرر» وفريقه بعملية غلق موقع الميناء ومغاراته بكتل حجرية ضخمة. وكان هذا في العام الـ 27 من حكم خوفو، وهو تاريخ يرتبط بتوقف أعمال استخراج النحاس والفيروز من مناجم جنوب سيناء، وربما يرتبط بتاريخ انتهاء الأعمال في إنشاء الهرم.
وفي عام 2016 كشفت بعثة أثرية تابعة لوزارة الآثار عن وجود 21 مرساوات «مخطاف» وذراعين من الأحجار منتظمة الشكل عمرها والعديد من الأواني الفخارية من عهد خوفو بالموقع. ويظهر أن المرساوات عليها مكان وضع الحبال التي كانت تستخدم في ربط السفن حتى ترسو داخل الميناء، التي يحدها رصيف داخل مياه البحر الأحمر بطول 180 مترًا، وتأخذ شكل حوض للميناء لمواجهة الرياح الشمالية في البحر الأحمر، بالإضافة إلى بعض الأواني الفخارية.
وتكمن أهمية برديات وادي الجرف في أنها تؤكد أن مشروع بناء الهرم الأكبر كان مشروعًا قوميًا، وأن الهرم بناه المصريون القدماء، وأن الهرم بنى مصر، كما تنفى أية ادعاءات كانت تتعلق ببناء الأهرام المصرية.
إن اكتشاف برديات وادي الجرف وما يتعلق به هو اكتشاف القرن 21 في الآثار بامتياز!