بقلم: إدوار ثابت
من هواياته التي يحبها منذ أن كان صغيراً هي سماع الإذاعة المصرية ، يسمع منها الأغاني المختلفة والصور الغنائية التي تحكي قصصاً تعكس البيئة القديمة والمعاصرة ، وما تحويانه من النواحي الشكلية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية التي تنطبع بها شخصيتها الرئيسية والثانوية . أما الأغاني ، فأكثر ما يستهويه منها الأغاني التي يغنيها ويلحنها المطربون والملحنون البارعون في طربهم وألحانهم ، ولاسيما أغاني محمد عبد الوهاب الحديثة والقديمة . فما يروقه في الحديث منها براعة اللحن ورشاقته ، وهزالة اللفظ ورقته ، وفي القديم منها أصالة التراث وعراقته وقوة الأداء وروعته ، وكان معها يعجب بالكثير من الأغاني العربية وخاصة اللبنانية والسورية التي كانت تذيعها الإذاعة مع الأغاني المصرية فيستمتع بمن يتغنون بها ويلحنونها بألحانهم المعروفة . وبين الحين والحين يسمع الموسيقى الكلاسيكية من المحطة التي تذيعها ، فينصت في تركيز وترقب إلى ما يسمعه منها ، فيتذوق ما بها من التناغم والتعريف الموسيقى ، ويلحظ فيها قدرة المؤلف على توظيف اللحن بين آلات الاوركسترا المختلفة . أما الصور الغنائية ، فكان يسمع الكثير منها مثل : قسم ، وعوف الأصيل ، وعذراء الربيع ، والراعي السمر التي يغني أثناءها المطربون مثل عبد الحليم حافظ ، وكارم محمود ، وسيد إسماعيل ، ومحمد قنديل وغيرهم ، يلحنها لهم الملحنون الذين كانوا أشهرهم محمود الشريف ، وأحمد صدقي . وكان يستمتع عندما يعرف أن بعض هذه الصور الغنائية أخذها من يؤلفونها عن الأساطير القديمة بعد أن شكلوها ووضعوا لها الطابع المصري القديم أو المعاصر فيقدر عملهم وقيمته .فعذراء الربيع مأخوذة من أسطورة إغريقية ، مصرها وكتب أغانيها، ووضع رؤيته فيها عبد الفتاح مصطفي ولحنها محمود الشريف ، وأدى شخصياتها زوزو نبيل، وعبد الرحيم الزرقاني ، ومحمد الطوخي وشريفة فاضل وأخرجها محمد محمود شعبان الذي كان يلقب (بابا شارو) . وأكثر ما يحب في تلك الصورة الغنائية أغنية تذاع في بدايتها وكتبها عبد الفتاح مصطفى ولحنها محمود الشريف وتغنيها المطربة (جيهان) التي كانت تملك صوتاً رقيقاً حانياً ، ومع ذلك لم تكن مشهورة ن ولم يكن أن اسمها الحقيقي هو سارة أحمد ، أخذها محمود الشريف في فرقته الخاصة عندما عرف قيمة صوتها وحنوه ، تقول الأغنية أو القصيدة .
هيا إلى المروج هيا إلى الربا
نستقبل الصباح معطر الصبا
هيا هيا
أن شهاب النور في غصنه المنثور
حياكِ يا آذار يا بهجة السمار
هيا هيا
ها قد صفا الغدير وازهر الكرم
وغرد العصفور كأنه حلم
وآذار هي بطلة الصورة الغنائية ، وهي في الأسطورة الإغريقية برسيفون ابنة زيوس وديمتر أما الراعي الأسمر فقد أخذها عبد الفتاح مصطفى عن الملحمة الإغريقية الإلياذة للشاعر هوبيروسأدى شخصياتها صلاح سرحان وزوزو نبيل ولحن أغانيها محمود الشريف وأخرجها محمد محمود شعبان . ومن حبه لسماع الإذاعة وما بها من الأغاني والموسيقى والصور الغنائية ، فقد كان يشترى في أجازاته الأسبوعية أو الصيفية مجلة الإذاعة ، يتصفحها ، ويعرف منها أوقات الأغاني والبرامج التي كانت المحطات قديماً توضحها بالضبط ، فلا تشذ عنها ، فيحول المذياع إلى المحطة التي تذيع ما يروقه ، بل يضع أمام كل ما يرغب من سماعه بالمجلة خطأ أو علاقة حتى لا ينسى أو يخطئ في شئ ، فإذا هو أثناء النهار والليل يحول المذياع من محطة إلى غيرها ، ومن برنامج إلى أغنية ، أو منها إلى أغنية غيرها ، أو برنامج غيره . وكان أحياناً يحب أن يتجول بوسط القاهرة ، أيام كان التجوال فيها بسيطاً ، به بعض الهدوء ، فإذا مر على متجر من المتاجر التي تبيع الالات الموسيقية والأسطوانات المختلفة ، ينتظر ويظل أمامه يتطلع إلى هذه الالات ، فيعجب بمن يستطيعون العزف عليها ، وإلى تلك الأسطوانات فيدهش ممن سجلوها ، فأشترى يوماً آلة من آلات الكمان . أخذ في بعض الأوقات يعزف عليها ، فكان عنفه عشوائياً ، لا يرتقي إلى مكانة الاحتراف ، فلم يتذوقه ن بل كان يخجل منه لعدم قدرته على أن يعزف مثل المحترفين ، فكل ما كان يفعله هو أن يحرك القوس بيد ويداعب الأوتار بأصابع اليد الثانية ، فتصدر عن الآلة أنغام رغم استساغته لها واستمتاعه بها ، يشعر بها ناقصة مقتضبة ، ولكنه يستمتع بها ، وإن كان بسيطاً ، فهو يدرك أن القدرة على العزف الصحيح يكون بالتدريب والدراسة من متخصص في فن الموسيقى . وذات يوم يسير بوسط المدينة ، فينحرف إلى شارع قصر النيل ، فما أن يخطو به قليلاً حتى يرى على طوار الشارع لافتة أمام صالة مبنى من المباني عليها إعلان عن مزاد يقام من الغد ، ويستطيع الناس قبله أن يتفحصوا ما به من أشياء تروقهم ، فيرغبون في شرائها ، فيتجه غلى الصالة ، فينظر في محتوياتها فيرى شيئاً ينجذب إليه : آلة من الالات التي تذيع الأسطوانات والتي تسمى بالفرنسية فونوجراف وبالإنجليزية جراموفون ، أما بالعربية فيطلق عليها لفظ لم يكن شائعاً رغم عربيته (الحاك) فيدنو منها ، ويفحصها ، فإذا هي قديمة تعمل باليد ، وعليها بعض الأسطوانات القديمة ، مثلها قد وضعت على قرصها وربطت بحبل من الأحبال البالية فيقرر أن يشتريها.
وفي الغد يتجه في شغف إلى صالة المزاد ، وبه رغبة قوية في الحصول على هذا الفونوغراف وما عليه من أسطوانات فينتظر بين الحاضرين مترقباً حتى يعلن منظم المزاد عنه فيشير إليه ويصيح في اهتمام بشئ من المبالغة وبلهجة حامية فونوغراف رائع ومعه كمية من الأسطوانات .. مين يفتح المزاد ؟ ولم يتحدث أي من الحاضرين الذين امتلأت الصالة بهم وكأن الناس أضحت لا تبالي مثل هذه الأشياء القديمة ، حتى وإن كانت كما يراها هو قيمة فينظر إلى من يقتربون منه فلم يلمح فيهم من به رغبة في شرائه ، فيندفع هو حتى لا يفقده ويصيح في بعض الارتباك : خمسة جنيهات ولم يعرف إذا كان هذا المبلغ كثيراً أو قليلاً ، ولكن منظم المزاد لم يتعجب فيصيح في حمية
خمسة جنيه الأستاذ مين يزود فيصيح رجل يقترب منه ، ويقول وكأنما يفتل الرغبة في الشراء خمسة وربع
وينظر إلى الرجل فيعرفه ، فقد رآه بالأمس ، عندما كان يتفحص الفونوغراف وقد أمسك بيده بعض الأوراق يتصفحها ويتطلع فيها إلى محتويات الصالة فيدرك أن الرجل هو من غير شك من اصحاب المزاد أو من العاملين بالصالة ، ويصيح المنظم : خمسة وربع .. مين يزود؟
فيقول هو في سرعة وكأنما يتحداه خمسة ثم ينظر إلى الرجل الذي نافسه في سعره فيراه يتفحص ورقة في يده بلا اهتمام ولم ينتظر المنظم ، فقد رأى عدم الرغبة من الحاضرين في شراء الفونوغراف فبدا عليه وكأنما يرغب في أن يتخلص منه فيصيح في حمية وهو يشير نحوه خمسة ونص الأستاذ ، ويتأنى قليلاً ثم يستمر خمسة ونص .. خمسة ونص ألا أونا .. خمسة ونص ألا دوَّى .. خمسة ونص ويتعثر برهة ألا تريٍ .
البقية في العدد القادم