بقلم: محمد منسي قنديل
في سنة ثلثمائة وسبعة عشر من الهجرة، خرج ابوطاهر بن ابي سعيد الجنابي من معقله في البحرين قاصدا مكة في موسم الحج، كان يعبر الصحراء وخلفه اصحابه في صمت واصرار، يريدون الوصول في اسرع وقت، كانت الاخبار قد انتشرت أن هناك جمعا كبيرا من الحجيج في مكة، كان الطريق الى البيت الحرام قد أصبح آمنا غلى حد ما، أمر لم يحدث على مدى سنوات طويلة، وبالتحديد منذ ان تمرد القرامطة واستولوا على منطقة البحرين، ولكن في هذا العام تدفقت عشرات القوافل على مكة وارتفعت نداءات التلبية الى عنان السماء، سار الجنابي واتباعه بلا توقف حتى لاحت امامه جبال مكة فتوقف، قال لاتباعه: خبئوا سيوفكم في مطايكم والبسو ثياب الاحرام ولاتكفوا عن صيحات التكبير والتلبية..
اطاعوه دون نقاش، انحدروا جميعا في الطريق المؤدي الى مكة، كانت البيوت والخيام والناس ملتفين حول البيت الحرام، ولكن حرس الخليفة كانوا يسدون عليهم الطريق، يشرعون السيوف ويحتمون بالدروع ويسدون الممر، لا سبيل للوصل الى مكة غير المرور من خلالهم، يهتف قائدهم به في قوة: عد من حيث اتيت يا جنابي، دخولك الى مكة محظور..
تظاهر الجنابي بالدهشة وقال: ولكني ذاهب للحج، مثل أي مسلم عادي يذهب للحج..
قال القائد: لا حج لك هذا العام، وربما الاعوام القادنة أيضا، اشار الجنابي لأتباعه فارتفت اصواتهم في قوة: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، ولكن القائد لم يتزحزح من مكانه، ووجه الجنود السيوف نحوهم، واشار الجنابي للجميع أن يصمتوا، قال للقائد: لا اريد أن ادخل في قتال معكم، هذا شهر حرام في موضع حرام، احضر لي أحد فقهاء مكة، لو استطاع اقناعنا بالرجوع فسنرجع، وكفي الله المؤمنين شر القتال..
ظل القائد يحدق فيه، تذكر كل المعارك التي دخلتها جيوش الخليفة ضد هذا المتمرد وكيف انتصر فيها عليهم، لم يكن يريد أن يكون هو ايضا احد المنهزمين، فكر ان ينتهز فرصة انهم عزل من السلاح ويهاجمهم ولكن تلويث الشهر الحرام بالدم، امر عظيم لايقدر عليه أحد، امر أحد جنوده أن يذهب سريعا ويستدعي شيوخ المسجد الحرام، يحضر أي عدد ممكن منهم، وظل الموقف جامدا، وطوال وقت الانتظار لم يكف القرامطة عن ترديد التلبية والتكبير، كأنهم كانوا يتجاوبون مع آلاف الملبيين الذين يطوفون اسفل الوادي، ثم عاد الجندي ومعه ثلاثة من الفقهاء على رأسهم الشيخ ابن عبد الرحمن أمام المسجد، كان شيخا وقورا يجيد تقييم الامور، لذلك نظر إلي الجنابي في تشكك وهتف على الفور : ماذا تريد منا ياجنابي، آلا يكفيك ما اهدرت من دماء المسلمين؟
قال الجنابي: كان هذا في الماضى، كانت رغبة الانتقام من الخليفة تدفعني لارتكاب كل هذه الجرائم، أما الآن فقد جئت تائبا ولا غرض لي إلا الحج..
وكلما ذكرت كلمة الحج كانت اصوات اتباعه ترتفع باصوات التلبية، قال الشيخ: لاسيبل الى ذلك، ولا أمان لك، قال الجنابي: اتريد ان يقال أنك منعت مسلما من الوصول الى بيت الله؟
قال الشيخ: وانت كم مسلما منعت، كم حاجا قتلت ونهبت وكم طريقا للحج قطعت؟..
قال الجنابي: كنت مجرما وخارجا عن القانون، هذا طبيعي بالنسبة لي، ولكنك شيخ الاسلام ومنعي معصية لدينك..
يبدو أن حجته قد افحمت الشيخ ابن عبد الرحمن فلم يستطع الرد للحظة، التفت ناحية الشيخين اللذين يرافقانه وأخذ يحدثهما، وانتهز الجنابي الفرصة فزاد من ضغطه وقال متوسلا: لقد جئت تائبا، أن لم تقبلوا توبتي فسأعود للصحراء واقطع كل طرق العودة على الجميع، لن يعود حاج من هؤلاء سالما الى بيته..
احدث التهديد تأثيره أكثر من التوسل، كان الجنابي يدرك جيدا كيف يتلاعب بهم، واخيرا قال احد الشيخين: فلنجعله يحلف على المصحف الشريف آلا يغدر بأحد، وانتظروا قليلا حتى يعثروا على مصحف، وتقدم قائد الجند وأخذ الشيخ ابن عبد الرحمن جانبا وقال له: لاتصدقه ياشيخ، حتى ولو اقسم والدموع في عينيه، ولكن البقية كانوا يتمنون أن يصدقوه، احضروا مصحفا من جوار الكعبة، ووضع الجنابي يده عليه واخذ يقسم والدموع في عينيه حتى سمحوا له بالدخول، حاول قائد الجند عبثا ان يفتشهم ولكن الامتعة كانت كثيرة والاسلحة مخبأة بعناية في تلافيفها، دخل هو ورجاله وسط جموع الحجيج، كانوا كما رآهم عزل ومستضعفين وجديرين بالافتراس، جاؤوا من بلادهم البعيد ليستغفروا من اجل ذنوب تافهة، عليهم أن يبحثوا عن وجهة أخرى بعد اليوم، كان الليل قد حل البيت الحرام ولم يبق إلا بعض الساجدين ليلا، بينما كان الجنابي وجماعته يعدون لضربتهم الكبرى..
لا يدري أحد كيف ولدت حركة التمرد هذه ولا كيف اصبحت على هذه الدرجة من الخطورة؟ كانت بدايتها بسيطة، عندما ظهر في البصرة ذلك الرجل، حمدان بن الاشعث ولقبه “قرمط”، كان يجدل الخوص ويأكل من عرق يديه، فقير زاهد يجيد تلاوة القرأن، ولايكف عن الحديث مع الجميع في أمور الدين، ويؤمن أن على الناس أن يؤدوا خمسين صلاة في الليل والنهار، ويدعوهم الى اتباع امام جدبد من أئمة اهل البيت، أمام غامض ومجهول لا أحد يعرف حتى اسمه ولكنه قادم، كثير من المسلمين كانوا يعتقدون أن الارض لا تخلو ابدا من امام، لايكون الامام ظاهرا على الدوام ولكنه يظهر ويختفي، ثم يظهر في اللحظة المناسبة ليملأ الارض عدلا بعد أن امتلأت جورا، فكرة الامام كانت، وربما مازالت، ساكنة في النفوس، لذا فسرعان ما اجتمع حوله الكثيرون، اصبح له اتباع يصدقون كل ما يقوله وعلى استعداد لفعل كل ما يأمر به، وعندما خشي أن تطارده شرطة الخليفة العباسي جمع اتباعه وخرج بهم الى منطقة البحرين، ولم يكن هذا الاسم يخص الجزيرة الصغيرة فقط ولكن يطلق على كامل المنطقة الشرقية من الخليج، وهناك اعلن في صراحه أنه الامام المنتظر، وعندما مات القرموطي الاول تبعه قادة آخرون أدعوا ايضا أنهم الائمة الذين طال انتظارهم، واحيانا أنصاف آلهة، وفي اول الامر استهان بهم الخليفة العباسي المقتدر بالله فأرسل لهم جيشا ضعيفا سرعان ما تلقى الهزيمة، وامتدت رقعة الارض التي كانوا يستولون عليها، ووصل نفوذهم الى منطقة البصرة، وتزايد اتباعهم خاصة من المستضعفين والفقراء، خاصة وهو يعدهم أنهم سيكونون سادة العالم الجدد بعد أن كانوا مجرد عبيد..
عند الفجر جمع الجنابي رجاله فخلعوا جميعا ثياب الاحرام وارتدوا ثياب القتال، هتف فيهم: اشهروا سيوفكم واقتلوا كل من لاقيتم ولا تنشغلوا بغير القتل، انطلقوا كضباع جائعة نحو البيت الذي يلتف حوله الحجيج، كانت التكبيرات تتعالي صافية ورائقة ثم سرعان ما تحولت الى صرخات فزع واستغاثة، فوجئ المصلون بالسيوف وهي تهوي عليهم من كل جانب، في لحظات امتلأت ساحة الكعبة بالدماء، حاول البعض الهرب فتعثر في الجثث، وتعلق البعض الآخر بأستار الكعبة لعلها تنجيه، بلا فائدة ظلت المذبحة مستمرة، لا ترحم شابا ولا شيخا، كان الجنابي يراقب المذبحة وحركة الحجيج المذعورة مبتسما وهو يصيح فيهم: يقول لكم صاحبكم من دخله كان آمنا، أفأمنون انتم ياحمير؟ أما ترون كذب صاحبكم؟
واشرقت الشمس فكشفت عن هول ماجرى حيث لا استجابة لمتوسل ولا رحمة لقعيد، وانعكس الضوء على باب الكعبة المصفح بالذهب فصرخ الجنابي في اتباعه: انزعوا هذا الباب، بيت الله في الارض اصبح من حقنا الآن، وكل شيء مباح، كان في داخل البيت محاريب من فضة وأطباق من احجار كريمة وهدايا ذهبية وسيوف ومصابيح ومشاكي، كل ما اهدي للكعبة على مر العصور من ملوك وامراء وقادة وكل طالبي الرحمة والغفران، اخذها كلها اتباع الجنابي، وفي أعلى الكعبة كان يطل ميزاب من ذهب يصرف كل ما يتجمع على سطحها من مياه وامر الجنابي أحد اتباعه أن يصعد وينتزعه من مكانه، ولم يتمالك التابع نفسه وسقط صريعا، كان هناك الكثيرون ممن استطاعوا الهرب والاختباء داخل بئر زمزم، ولكن القرامطة اخذوا يلقون عليهم جثث الموتى حتى اختنقوا داخل البئر، اخذ الجنابي يبحث عن حرس الخليفة، هؤلاء الذي عارضوا دخوله لمكة ولكن معظمهم كان قد فر الى الصحراء، اصبحت مكة مستباحة تماما، يدخل ويخرج هو واتباعه متى شاؤا، يقتلون كل من يصادفهم، يقتحمون البيوت حيث توجد النساء الهاشميات والعلويات، يأسرهن أو يغتصبهن، وحتى امتعة الموتي لم تنجو من التفتش وسرقة كل ما فيها من ذهب ونقود.
وفي اليوم الثالث من المذبحة، بعد أن قتل آلاف لايدري أحد عددها، استدار الجنابي نحو الكعبة مرة أخرى، أمرهم أن يخلعوا استارها، تعرى البناء وظهرت احجاره التي شارك في وضعها الانبياء، ثم اشار الى الحجر الاسود الموجود في الركن الجنوبي والذي يبدأ منه طواف الحجاج وأمر بخلعه من مكانه، كان مكونا من اكثر من قطعة، يحيط بها جميعا اطار من فضة، وترك في الجدار خلفه فجوة غائرة، وبدا البيت حزينا منكسرا وقد فقد اهم أحجاره، تحاصره الدماء والجثث، وبئر زمزم يفوح منه العفن واخيرا ركبوا جيادهم ورحلوا عنه الى مدينة هجر، ولم يكن الخليفة المقتدر قادرا على فعل اي شيء، وكان الجنابي يعتقد أن الحجر بحد ذاته يمتلك قوى جاذبة سوف تجعل الناس يسافرون إليه ويطوفون من حوله، لذلك بني في القطيف بيتا مماثلا للكعبة وضع فيه الحجر وأخذ يدعو الناس للحج عنده، ولكن لم يذهب إليه أحد، ومرت على المسلمين اعواما سوداء دون حج، فشلت المحاولات العسكرية لإستعادته، وفشلت مساعي والي مكة الذي ذهب إليه وعرض عليه المال، وعرض الخليفة المقتدر ثلاثين الف دينار جائزة له، وارسل العديد من ولاة المسلمين وملوكهم مثل عبيد الله الفاطمي رسالة إليه يهدده ويتوعده، وجمع المسلمون في مشارق الارض ومغاربها اموالا من اجل استرضائه فلم يرض، ولم يستجب لكل هذه المساعي على مدى 22 عاما، وفي ذات لم يتوقعه أحد وجد الجميع الحجر معلقا على مسجد الكوفة حتى يراه الجميع، ولم يعرف أحد متى ولا كيف تم وضعه هكذا، وعندما سئل الجنابي لماذا رفض كل هذه الأموال وأعاده هكذا دون مقابل قال في غموض: لقد أخذناه بأمر، وأعدناه بأمر” ولكن ان الحجر عاد الى موضعه والقرامطة انتهوا وتواصلت مواسم الحج.